زيارة المواقع التي تهتم بجمع معطيات عن مستويات البحث العلمي في بلدان العالم تعطينا فكرة واضحة عن بعض الخلل و جوانب القصور في البحث العلمي في الدول التي نسميها تجاوزا نامية، حتى لا نعطي أمثلة بالمتخلفة جدا. فالمعطيات تتكلم بلغة تقنية وواضحة و لا تخضع لأي سلطة خارجة عن ذاتها. طبعا تبقى دلالة المعطيات و تأويلها يخضع بعض الشيء لإيديولوجية المؤول لكن الاختلاف في التأويل يبقى هامشيا لأن الأرقام تتكلم عن نفسها و لا تحتاج كثيرا لوسيط يؤولها تأويلا يبتعد عن ما تشير إليه فعلا.
زرت موقعا متخصصا في جمع المعطيات، يحمل اسمScimago و هو موقع مختص في ترتيب الدوريات العلمية و الدول على مستوى العالم و يستقي معلوماته من قاعدة البيانات سكوبسScopus و التي تملكها شركة Elsevier، و تغطي هذه المعطيات الفترة الممتدة من 1996 إلى 2013. كانت أول محاولة قمت بها هي معرفة ترتيب المغرب في نشر مقالات علمية في جميع التخصصات بين جميع دول العالم، وقد كان الترتيب مشجعا لي على المتابعة، فالمغرب يحتل الرتبة 55 من مجموع 239 دولة [تضم اللائحة دولا لم أسمع عنها من قبل]. يبقى هذا الترتيب نسبيا لا بأس به، لكن الشيطان يوجد في التفاصيل كما يقول المثل. يحتل المغرب المرتبة الرابعة بين الدول العربية، وراء كل من مصر، السعودية [لأن بها أساتذة أجانب] وتونس. على مستوى العالم، يحتل المغرب مواقع بعضها متقدم شيئا ما و بعضها متأخر نسبيا،ففي العلوم الرياضية يحتل [الرتبة 52] الفيزياء و الكيمياء [52] و الطب [54] و علوم البيئة [59] و علم الحاسوب [60] و العلوم البيولوجية[65] و الطاقة [69] و الآداب و العلوم الإنسانية [67] و العلوم الفرعية كعلم الاجتماع [82] و علم النفس [79] و الاقتصاد [74] إلى غير ذلك من العلوم و فروعها المتعددة.
يلاحظ على المستوى العام أن هناك تقدما نسبيا للعلوم الحقة و تراجعا في الترتيب بالنسبة للعلوم ذات الطبيعة الاجتماعية و الإنسانية، سواء في المغرب أو باقي الدول العربية مع احتلال مصر و الأردن، و هي دول انجلوفونية، مراكز متقدمة لأن المقالات تنشر معظمها بالانجليزية. هذا لا يعني أن عامل اللغة هو حاسم في تفسير هذا التقدم بل هناك عوامل أخرى، منها وفرة المجلات في مجال العلوم الإنسانية التي تهتم بالنظريات الانجلوسكسونية على المستوى الدولي. و قد حضرت مؤخرا محاضرة للدكتور المختار الهراس حول الدوريات العربية في العلوم الإنسانية بكلية الآداب بالجديدة، أشار فيها إلى هذا القصور على مستوى اللغة الانجليزية حيث لا يوجد و لا مقال واحد في الدوريات التي كانت موضوع الدراسة في بحثه كُتب باللغة الانجليزية و اقتصار مواضيع المقالات التي أنتجها مغاربة مثلا على النظريات الفرنسية في هذه العلوم، الأمر الذي يحد من إمكانية استفادة أعمال البحث من النظريات الكثيرة و المتعددة في العلوم الإنسانية في العالم الانجلوساكسوني. يبقى الفرق الكمي بين عدد المقالات في العلوم الحقة و العلوم الإنسانية ظاهرة عامة في جميع دول العالم، لكن الاختلاف يبقى في تباين الترتيب بين العلوم الحقة و الإنسانية في كل الدول العربية، في الوقت الذي نجد فيه ألمانيا و فرنسا [التي ينشرغالبا باحثوها المقالات باللغة الانجليزية] مثلا تحتفظ بنفس الرتبة تقريبا في المجالين. من العوامل التي اعتبرها أساسية في تأخر النشر في مجال العلوم الإنسانية هو ارتباط البحث، حسب الاعتقاد السائد، فيها بالحرية السياسية و الديمقراطية و ذلك لارتباط مواضيع البحث بتحليل الوضع القائم و انتقاده و هو ما تنظر إليه، غالبا، السلطة السياسية بعدم الرضا و التضايق.
لكن عند مقارنة ترتيب الدوريات و المجلات العلمية المتخصصة ندرك فعلا التأخر الواضح في البحث و نشر نتائج البحوث بوسائل محلية و انتشار ظاهرة الاعتماد و التبعية للآخر. لا توجد في المغرب سوى أربع مجلات مصنفة [في سكوبس] في جميع العلوم و التخصصات: مجلة المواد وعلوم البيئة [الرتبة 12374] ، مجلة الدراسات المتوسطية 20991]، و مجلة أخبار الفيزياء و الكيمياء[23066] و التي يشرف عليها الأستاذ عبد المجيد بلفحل من كلية العلوم بالجديدة، و نشرة المعهد العلمي الخاصة بعلوم الأرض[24758]. و يبقى ترتيب هذه المجلات عالميا غير متقدم غالبا لأنها مجلات جديدة لم تتمكن بعد من النشر الكافي لمقالات البحث و تحقيق تراكم يضمن لها ترتيبا أفضل. هذا العدد القليل جدا للدوريات والمجلات المصنفة يعني أن حركة النشر و دعم البحث ضعيفة على المستوى المحلي و أن أغلب الباحثين المغاربة ينشرون في مجلات دولية. لا يعتبر النشر في الدوريات الدولية سلبيا لكن العيب هو هذا الغياب الشبه التام لحركة ثقافية و علمية محلية تتوج بنشر محلي لنتائج البحوث تحظى باحترام المنتديات العلمية الدولية. و يشير هذا الأمر كذلك إلى عدم الارتباط الكبير للبحث العلمي في المغرب بنشاط اقتصادي أو علمي أو تنموي محلي مؤسساتي.
عندما نقارن مختلف التخصصات بغض النظر عن ترتيب المغرب عالميا فيها، نجد تقدما واضحا من الناحية الكمية لبعض العلوم، فمثلا تحتل المقالات المنشورة سنة 2013 في الطب الرتبة الأولى ب 1128 ،والرياضيات الرتبة الثانية ب 494 مقالا و تليها الفيزياء[480] و علم الحاسوب[401] و الكيمياء [367]، كما نجد في أسفل الترتيب تخصصات كعلم النفس ب 9 مقالات و الاقتصاد و المالية ب 25 مقالا و الآداب و العلوم الإنسانية ب 44 مقالا. تكرر نفس البنية يشير إلى قصور واضح في بعض التخصصات أصبح من الضروري تداركه و إصلاحه على مستوى الجامعة المغربية.
كما أن دراسة المعطيات العامة الخاصة بالمغرب تُبرز بعض السمات التي لابد من الإشارة إليها. فعندما يتم استعمال مؤشر هيرتش و الذي يستخدم لقياس كل من الإنتاجية و التأثير للأعمال المنشورة بالنسبة للباحثين و الجامعات و المجلات العلمية و الدول و يستند في تقييمه على نسبة الاستشهادات بتلك الأعمال ، نجد أن الباحثين المغاربة يتميزون بمؤشر لا بأس به [109]، متفوقين على الباحثين التونسيين [97] و يقتربون من المصريين [148] الذين يتفوقون نسبيا من حيث العامل الديموغرافي و اللغة. ما يدعم هذا التفوق بالنسبة للباحثين المغاربة هو نسبة الاستشهادات لكل مقال و التي تصل 6.24 و هي نسبة مهمة نسبيا بالمقارنة مع تونس [4.87] والأردن [5.99] و مصر التي لا تتفوق إلا بنسبة قليلة [6.30].
تُبرز هذه المعطيات المجهود الكبير الذي يبذله الباحثون المغاربة في مجال نشر الأبحاث العلمية، رغم العديد من الظروف المعاكسة، كضعف الميزانية المعتمدة للبحث العلمي و ضعف التجهيز و عامل اللغة، حيث يضطر معظم الباحثين إلى ترجمة أبحاثهم للغة الإنجليزية. لكن هذا التفوق يبقى نسبيا محصورا في العلوم الحقة و فروعها و تبقى مواطن القصور كامنة في العلوم الاجتماعية ربما بسبب إحساس الباحثين بصعوبة إجراء أبحاث ميدانية قد لا تنظر إليها الدولة بعين الرضا، أو قد تكون الأسباب مختلفة و متعددة تحتاج تحديدا و معالجة من طرف الباحثين أنفسهم و الأطراف الأخرى المسئولة عن هذه الثغرة.
نخلص مما سبق إلى أن هناك مجهودات تُبذل من طرف الباحثين المغاربة مع وجود قصور واضح في بعض المجالات، غير أن أهم ما يمكن أن نلاحظه، و الذي لا تشير إليه الأرقام، هو مدى مساهمة هذه الطفرة الكمية خصوصا على مستوى العلوم الحقة في تحقيق تنمية سواء محليا في المجال السوسيو اقتصادي و البيئي، ووطنيا في دعم التنمية بالمساهمة في تحقيق مشاريع كبرى. يحتاج الجواب ربما لدراسات متعددة، لكن الملاحظات الأولي تفيد بوجود شرخ بين البحث العلمي و التنمية على المستويين. لا قيمة للبحث العلمي إن كانت نتائجه سجينة بين جدران الجامعة. يجب أن تنفتح الجامعة على محيطها للمساهمة فعليا في التنمية و التغيير الاجتماعي. لتحقيق هذا الأمر يجب على الدولة أن تتحمل مسؤولياتها بمساعدة الباحثين ماديا وإداريا و قانونيا و تشجيعهم على المساهمة محليا ووطنيا لتحقيق التنمية و حل المشاكل. فعمل من هذا النوع يحتاج ليس فقط للمجهود الفردي أو الجماعي للباحثين لكنه يحتاج و بكل تأكيد لعمل مؤسساتي و لرؤية واضحة ووطنية تؤمن بأن التنمية لا تتحقق إلا بوسائل وطنية ومستقلة، كما يقول المثل “ما حك جلدك مثل ظفرك”.
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=16272