بقلم د. محمد معروف/ ترجمة د. محمد مفضل
يتناول هذا المقال فكرة أساسية ، وهي أن العنكبوتية السياسية تعبر عن نفسها من خلال مرجعية ثقافية سابقة في الوجود و مستبطنة، لها علاقة تمفصلية بالأفكار و الممارسات الثقافية الشعبية، إذ لا تعتبر العناكب السياسية غيرا مختلفا، بل أشخاصا نشأوا في ظل التاريخ المشترك، و لهذا فإنهم قابلون للتصنيف بصفتهم أنواعا و هويات معروفة. و يشمل هذا التضمين الثقافي إرث المؤسسات و المعتقدات و الممارسات المارابوتية والريعية التي مازالت فاعلة في الحاضر، و التي تعمل على بناء و إعادة بناء نظام التطبع السياسي للعنكبوتية بالمغرب.
تنتمي العنكبوتية إلى نموذج ثقافي ريعي مشكل من علاقات اجتماعية تعتمد المنفعة المادية، من خلال شبكات العصبية والريع المؤسس على الرأسمال الاجتماعي. و يبين هذا المقال أن التجربة المعيشة و التنشئة الاجتماعية بالأرضية الثقافية يؤثران في الممارسة السياسية أكثر من أي مذهب سياسي، و يمتح هذا المقال مادته أساسا من أبحاث الاثنوغرافيا والريترو اثنوغرافيا التي تمت ببعض أحياء مدينة الجديدة، خلال الانتخابات الجماعية سنة 2009 و الانتخابات التشريعية سنة 2011.
و من مصادر المعلومات المستعملة نذكر الدردشات (natural conversations)، و الاستخبار الودي للمبحوثين (gossiping) ، بالإضافة إلى الملاحظات المستقاة من خلال استقراء ريترو اثنوغرافي للتجربة السياسية الشخصية خلال الحملات الانتخابية المحلية و البرلمانية داخل حزب الأحرار منذ سنة 1976، و التي كانت ترأسها الشخصية البطولية المشهورة و المثيرة للجدل، أرسلان الجديدي، الذي جاء من الرباط باعتبار انه خصم يهدف لكسر شوكة عبد الكريم الخطيب و شعبيته رفقة الحركة الشعبية الدستورية التي كان يتزعمها.
سنحاول في هذا المقال أن نتحدث عن تجربتنا الشخصية الأولى مع السياسة في سن البراءة المبكرة، مثل العديد من الشباب المغاربة اليافعين الذين كانوا و مازالوا يتعرضون للاستغلال من طرف العناكب المحترفة، و التي كان همها هو الفوز في الانتخابات المحلية أو الوطنية.
سنحيل على تجربتنا الشخصية كمنهج اجتماعي للبحث، لفهم و تبيان و مساءلة و نقد التجربة الثقافية و السياسية [نذكر منها الهيمنة السياسية، و القمع، و عدم الأهلية السياسية و أنواع أخرى من العيوب السياسية]. و ننوي من خلال توظيف تجربتنا الشخصية في هذا النقاش، أن نوضح الطبيعة المعقدة للتجربة السياسية المغربية، ونصف كيف أنها شكلت التطبع السياسي. و نراهن في هذا المقال على تقديم معرفة تعتمد على التجربة و المشاركة، و تعبر عن مواضيع مسكوت عنها، كما تدعم حركات التغيير الاجتماعي.
إن مقالنا يطرح أربعة قضايا أساسية:
- الأرضية الثقافية التي ترعرعت فيها العناكب
- حكاية نشأة العناكب السياسية
- الخطيئة الأولى التي ارتكبها النظام عندما قام بمنع شرائح اجتماعية واسعة من الحديث والمناقشة والحوار في المجال العمومي السياسي منذ بدايات الاستقلال.
- الخيارات المطروحة أمام الدولة بجميع مكوناتها، والتي تتجلى في إنشاء محولات ثقافية تقود مرحلة التغيير و إعادة تشكيل الذهنيات الثقافية على صعيد كافة المجالات الاجتماعية.
- الأرضية الثقافية
يعتقد زياد حافظ [2009] أن النظام الاقتصادي للريع ُينتج ثقافة تعيق النمو و الاندماج الاقتصادي و التطور المستقل في العالم العربي، و يحدد ابن خلدون في مقدمته [طبعة 2005] الريع بأنه دخل يُكدس بدون بذل مجهود من اجل اكتسابه، إذ يمكن لهذا التحديد أن ينطبق على قطاعات اقتصادية متعددة حيث لا يقتصر تطبيقه فقط على ملكية الأرض.
يرجع أصل الريع في العالم العربي إلى اقتصاد الغزو والحصول على الغنائم، و لنكتف بالقول إن الجماهير في العالم العربي تكدح و تعمل على إنتاج ثروة تهيمن عليها بسهولة أقليات في مراكز السلطة قد تبذرها بإسراف، و يحيل ابن خلدون على حقائق تاريخية تبين كيف كانت القبائل تغزو قبائل أخرى، فتسيطر على ممتلكاتها، و كيف أنها كانت تعتبر العمل في الفلاحة و الصناعة عملا مخجلا [ص340]، و يخلص إلى فكرة جامعة مفادها أن الجاه المرتبط بالثروة، لا يرتبط في العقل العربي بالمجهود و العرق و العمل.
لقد كان ابن خلدون أول من اعتبر أن الاقتصاد المبني على الريع ليس هو الذي يؤدي إلى التقدم، بل الاقتصاد المُؤَّسس على الإنتاج ، لأنه هو الذي يُشيع أخلاقيات العمل المرتكزة على المجهود، و يضمن استمرارية تماسك النسيج الاجتماعي.
سنحاول في هذا المستوى من التحليل، التمييز بين دولة الريع و بين الاقتصاد المؤسس على الريع. و بالرغم من أن بعض علماء الاجتماع و الاقتصاديين يستعملون هذين المصطلحين باعتبارهما مترادفين، فإن هناك فرقا بينهما، و في الواقع ، إن مصطلح “اقتصاد الريع” يفترض وجود “دولة الريع”، لكن الفرق بينهما يوجد في درجة انخراط مؤسسات الدولة في هذا النوع من الاقتصاد. وعندما نتحدث عن دولة الريع، فإننا نحيل فقط على مؤسسات الدولة، لكن عندما نتحدث عن اقتصاد الريع، فإننا نحيل على مؤسسات الدولة و القطاع الخاص معا [انظر حافظ 2009]، و بالتالي يكون لاقتصاد الريع تبعا لذلك مجال أوسع.
و حسب حازم ببلاوي [1987]، ليس هناك اقتصاد ريع خالص؛ بل توجد مظاهر الريع في كل الاقتصاديات، وتظل المسألة متعلقة إذن بوجهة النظر المستعملة في التحليل. يظهر اقتصاد الريع وفرة في عناصر الريع؛ ففيه لا تخلق القوة العاملة الثروة ، بل تكتفي باستعمالها و توزيعها علما أن أقلية هي التي تنتجها. و لم يكن حازم ببلاوي واضحا البتة بشأن هذه النقطة، فأحيانا يتم تبادل الأدوار أو خلطها، إذ يتمثل الجديد في نظرية ببلاوي في تأكيده على دور الدولة باعتبارها محركا أساسيا في اقتصاد الريع؛ لأنها معنية بالأساس بإعادة توزيع مداخليها.
تبين الطبيعة الريعية للدولة أصولها القبلية الانقسامية، إذ تستعمل الدولة مصادر دخلها لكسب الولاءات و إعادة توزيع الامتيازات لفائدة النخب و الشرائح الاجتماعية المخلصة في ولائها للنظام القائم، فتصبح تبعا لذلك صورة دولة الرعاية المؤسسة على الضرائب ضبابية، و يبرز بوضوح الدور الخيري للحاكم في المجتمع.
من وجهة نظر التحليل المادي للثقافة، ليس الريع هو الذي يجب نقده و تفكيكه، بل الثقافة التي ينتجها [ انظر حافظ 2009]. فالريع يرفض العمل و الجهد، و يراكم الربح. يتحدث ببلاوي عن ظهور عقلية الريع في اقتصاديات الريع، وأهم مميزات هذه العقلية هي قلب الأخلاقيات المتعارف عليها للعمل، و المبنية على الجهد و المجازفة؛ وهذه الأخلاقيات تحدث قطيعة في العلاقة السببية بين العمل و الأجر المكتسب، فيصبح الدخل مسألة حظ و ظروف خاصة؛ ففي المغرب مثلا، تظهر أخلاقيات الريع في أساليب ثقافية خاصة، متجذرة في الإسلام الشعبي و المارابوتية اللذين ينغمسان أيضا في الريعية [ندعو القارئ إلى تأمل مفاهيم مثل “الشرفا” أي المنحدرين من السلالة الشريفة للرسول (ص)، وكيف أن القبائل كانت تعمل في أراضيهم بدون مقابل، و كيف استفاد “الشرفا” من هبات سلطانية في شكل ملكيات و أراض (إنعامات و”عزائب”)، و نضيف إلى ذلك مفهوم “الزهر” (الحظ)، و “الرزق” [عطاء إلهي]، و الإحسان، و التوزيع الإلهي للثروة [ خلق الله الفقير كما خلق الغني]، و أخيرا النسب الشريف [ “الشرفا”، و الوجهاء و أصحاب المقام الرفيع الذين لا يحتاجون إلى بذل الجهد و العمل]. و في الثقافة المغربية، تتعدد الأمثلة التي تبين أن الفئات الاجتماعية المقهورة و الرابضة في أسفل الهرم الاجتماعي تكد في الوقت الذي تكتفي فيه بعض العناكب بالسيطرة على ثمرة جهد الآخرين دون أن تبذل أي جهد.
لماذا نسميهم “عناكب”؟ لأنهم ينسجون، على شاكلة العناكب الطبيعية شبكة ، لكن من علاقات نافذة يستغلونها لجمع الثروة، و يعتمدون على رأسمالهم الاجتماعي لتكوين رأسمال اقتصادي، لكن رأسمالهم الثقافي يظل هزيلا، في حين يزيد الرأسمال الرمزي ثراءهم وزنا؛ حيث يكدسون الثروات بفضل ذلك، و يستعبدون باقي أفراد المجتمع للعمل لصالحهم. إن العناكب الريعية التي تهيمن على السلطة تفرض نفسها كنماذج على باقي أفراد المجتمع، لتتماهى هذه الأخيرة معها وتسير حذوها. و تنتشر الخطاطات الثقافية للريع في كل الفضاءات الاجتماعية العامة، عبر المؤسسات الاجتماعية، و بالتالي يتم تكوين هويات عنكبوتية في كل مكان بالمجتمع.
إن جمع الثروة ببذل أقل جهد هو البنية السلوكية الثقافية النموذجية في المجتمع؛ إذ تتحول الثروة في العقلية الريعية إلى غنائم، و يتم تقدير التطبع العنكبوتي المبني على تكتيكات الخداع باعتبارها مهارات جسدية، لأن السلوك الاقتصادي للعنكبوت يتمركز حول الربح بأي وسيلة، ويظل العمل و جودته خارج المعادلة، و تبرز بعض التعابير اللغوية الشعبية النسخة المغربية من دولة اقتصاد الريع، نورد منها مثلا: موفي [ابحث عن مصلحتك] ،زطَّط [تجاوز الصعوبات]، لَوعورية [مهارات عالية]، لقفوزية [ذكاء الحيلة]، لَقوالب [حيل]، تمعلميت [الحرفية/ الإتقان]، وخَرَّج راسك [الافلات من العقاب أو من المشاكل]…
تعتبر ثقافة الريع في المغرب مزيجا معقدا و قويا من المكونات التي تنتج عقلية الريع؛ فهناك تأثير العصبية الذي مازال فاعلا باعتباره صيغة للسلوك الاجتماعي في مغرب القرن العشرين، و هناك المخزون الثقافي للمرابوتية الذي مازال حيا في المخيال الشعبي، و هناك أخيرا الريعية. و تعود مشاكل النسخة المغربية من اقتصاد الريع إلى هذه الخزانات الثقافية التي لم تدرس بطريقة كافية حتى يتم تفكيكها و إعادة تركيبها في صيغة حديثة لتتناسب و حاجيات المجتمع الحديث، كما أن الأكاديميين انشغلوا في الوقت الحاضر بتدريس ثقافات تتجاهل الثقافة العضوية للحياة اليومية، مما أدى إلى عزلتهم عن واقعهم، وهكذا أقصي الإسلام الشعبي من مختبرات البحث ليتم تقديمه في الساحة الثقافية كفلكلور ليس إلا، يا لها من مفارقة؟ إننا بهذه الطريقة نشجع الجهل المؤسساتي بتبني برامج ثقافية و أدبية بعيدة كل البعد عن واقعنا، و ليس لها أي ارتباط يذكر باهتماماتنا الاجتماعية، و بالتالي نترك المجال فارغا “لأنبياء الظلامية” ليتلاعبوا بأفكار الشباب المغربي ومشاعرهم.
تعيق ثقافة الريع التطور الاجتماعي لأنها تقلل من قيمة المجازفة و التجديد، و المعرفة العلمية و المحاسبة، و الكفاءة والمهارة و العمل، لكنها تشجع بالمقابل الإخلاص للسلطة و الولاء و الخضوع، و الفئوية و الخنوع و الفساد، و التزمت الفكري و التعصب، و الجمع غير المراقب للثروة، و التبذير في صرف المدخرات. لنكتف بالقول، إن المصدر الأساسي للثروة في النظام الاجتماعي للريع هو الهيمنة على الغنائم بدون بذل أي جهد. من منظور هذه الثقافة الريعية، من هو العنكبوت الرحال الذي ظهر في الساحة السياسية بالمغرب؟ كيف تحول إلى عنكبوت؟ و كيف أصبح رحالا يتنقل من حزب سياسي إلى آخر، و يغير مبادئه و قيمه كما يغير ملابسه الداخلية؟ أصبح ماركسيو الأمس إسلاميي اليوم، و من كانوا يسمون مناضلين بالأمس أصبحوا الآن انتهازيين يبحثون عن الغنائم، و ينتقلون من حزب سياسي إلى آخر. ماذا يحدث في المجال السياسي العام؟ لماذا توجد العناكب في حالة ترحال دائم؟ هل أخفقت الأحزاب السياسية في تعليمها الالتزام الحزبي؟ ما هي حكاية تنشئتها السياسية؟ و بتعبير فوكوي، ماذا يحدث للانضباط المُراقَب [المشتمل] داخل الأحزاب؟ هل هذا يعني أن تعليمنا و سياستنا مؤسسان أيضا على الريع؟ ماذا فعلنا لمحاربة الثقافة الريعية العنكبوتية؟ هل هناك ترياق مضاد لسم العناكب؟
- حكاية نشأة
كان أهم تحد واجهته الملكية بعد الاستقلال هو تثبيت النظام، فحسب جمال بنعمر (1988)، عرفت ملكية ما بعد الاستقلال في عهد الملك الحسن الثاني معارضة قوية من طرف أحزاب رسمية كحزب الاستقلال، و حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي أصبح في سنة 1974 يحمل اسم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، و من طرف الحزب الشيوعي، وكذا بعض الحركات الراديكالية كحركة “إلى الأمام”، و “حركة 23 مارس” و مجموعة البصري، بالإضافة إلى تهديد الجيش بقلب النظام في سنتي 1971 و 1972 على التوالي.
لم تنعم الملكية بالاستقرار حتى أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم، حين قبلت المعارضة أن تلعب دورا شكليا، وأن تعطي الشرعية لديمقراطية الواجهة في المغرب. و لإسكات المناوئين لسلطة الملك، كما يعتقد ساتر[2013]، تم تأسيس نظام أحزاب تعددي لخلق مجال سياسي عام بإمكانه احتواء الآراء المعارضة. وقد كان ظهور الليبرالية السياسية هو الذي سيحافظ فيما بعد على شرعية الحكم الملكي في المغرب، و تم خلق منطقة للمنافسين السياسيين للتدافع فيها من أجل السلطة، دون إقحام الملك في المعادلة، لأن التنافس كان و مازال من أجل مناصب حكومية و برلمانية. وقد وازنت الملكية بين الليبرالية السياسية التي منحها الملك و بين خضوع الأحزاب السياسية لحكم سلطوي.
يؤكد مغراوي [2001] أن البنية السلطوية للمخزن التي تم بناؤها لثلاثة قرون من اجل توسيع نفوذ السلاطين المغاربة، وبسطه على القبائل ذات “الحكم الذاتي”، قدمت الإطار والقوة العسكرية لتوطيد نظام سلطوي مؤسس على الاستقطاب والفساد و البطش. خلال سنوات الرصاص، تبنى المخزن استراتيجيات القمع العنيف للتمرد في المدن و القرى، كالحبس الانفرادي، و السجن السري لتزمامارت أو “السجن المشرحة” حسب تعبير مغراوي. ووفقا لهذا الأخير، وزع المخزن على المتعاونين و الحلفاء و الخدام الأوفياء مناصب إدارية عليا ومصالح و خدمات مقدمة من طرف الدولة، و المئات من المزارع و الشركات التي تم استرجاعها من الفرنسيين في بداية السبعينيات، و استعمل الاستقطاب لكسب ولاء الجماعات المعارضة التي لا تلجأ إلى العنف، و عمد إلى مكافأة المؤيدين من النخبة السياسية، كما تم تأسيس نظام انتخابي تعددي لاحتواء الخصوم السياسيين، وللحيلولة دون تمركز السلطة في يد قطب سياسي دون آخر، ومن ثمة المحافظة على استقرار النظام. و هكذا تحول النظام الانتخابي إلى مجال لممارسة الريعية السياسية، أي إعادة إنتاج نخبة سياسية غير مستقلة وخنوعة وسهل إفسادها. وفي رأي مغراوي، يتمظهر الاستقطاب في ثلاثة أشكال: خلق توازنات عبر توزيع عادل، شيئا ما، للمقاعد البرلمانية بين الأحزاب السياسية [ بالرغم من أن الأحزاب التقليدية لليسار بقيت تحت الضغط] حتى لا يصبح النظام قويا جدا أو ضعيفا جدا، واستعمال الرشوة في الانتخابات، و الانتخاب المشبوه للوجهاء و الأعيان للحصول على مقاعد في البرلمان و المجالس الجماعية.
إذا توقفنا و بحثنا في إستراتيجية المخزن في توطيد النظام، سنكتشف أنها مترسخة بعمق في الريعية، فقد تأسس السلوك الريعي للمخزن مند زمن، بشرائه لولاء القبائل و القياد و الأولياء، و كانت الهدايا السلطانية دائما عنصرا مكونا للعلاقة بين السلطان و خدامه المطيعين، وفي هذا الإطار، حدد حمودي في كتابه الشيخ و المريد [1997] كيف تشتغل ميكانيزمات العلاقة بين السلطان و الرعية، فنموذج تبادل الهدايا معقد جدا وعلاقات السلطة بين السلطان و بطانته دينامكية، إذ يعتبر قبول السلطان للهدية من خدامه المخلصين، و حضوره أمامهم هدية في حد ذاتها، ومقابلا للهدية التي تسلمها. إن حضور السلطان ممارسة لإلزام تفرضه الثقافة حين يتسلم الشخص هدية، فعندما يقدم السلطان هدايا لرعاياه المخلصين، ولاستقطاب منافسيه، يتم وصف ذلك كتبرع يعبر من خلاله عن رضاه عن خدامه المخلصين، وعن تواضعه لمكافأتهم.
في بحوثنا السابقة حول الروح الإسلامية للرأسمالية (2010) و الحركات الإسلامية (2011، 2012، 2013) خلصنا إلى فكرة مفادها أن نموذج تبادل الهدايا المتجذر في المارابوتية، يمكن أن ينتقل إلى مجالات اجتماعية عامة أخرى، إذ يمكن أن نصادف هذا النموذج الثقافي في التعليم، و العمل، و الشارع و الأسرة، إلخ…كما نعتقد أن الترابط النظري بين هذا النموذج المارابوتي و النموذج الريعي يعتبر إضافة جديدة لهذا البحث، فمن وجهة نظر ماركسية، يبدو أن المارابوتية و السلطانية والثقافة السياسية تشكلت جميعها من النظام الاقتصادي للريع الذي ورثه المغرب و الدول العربية على السواء لقرون طويلة، حيث أنه قد أثر إلى حد كبير في الدولة و الفرد.
نشأ العنكبوت الرحال في هذا العالم المارابوتي الريعي، و سنسلط الضوء على القاعدة الشعبية للأحزاب السياسية، لنرى كيف تمت تنشئته في إطار “الإيديولوجيات و المذاهب السياسية”، إذ نلاحظ كيف لا تفتح أغلب الأحزاب دكاكينها إلا حين تبدأ تجارة الانتخابات المحلية و التشريعية؛ فبعض المرشحين– إن لم نقل الكثير منهم– هم تجار سياسة، و لهذا يقومون بشراء أصوات العامة من المصوتين لضمان مقاعد في المجالس الجماعية أو التشريعية. وبالرغم أن الجميع يتحدث اليوم عن الشفافية في الانتخابات، فمازال الاستحواذ على الغنائم معيارا للسلوك بالنسبة للعديد من العناكب السياسية. حين تنتهي الانتخابات تتبخر العناكب، و لا يستطيع المواطن العادي رؤيتها على الإطلاق بعد ذلك؛ لازلت أتذكر أحد المرشحين للانتخابات عن الحي الذي نشأ فيه، فقد قام بجولات متعددة لأزقته الضيقة خلال الحملة الانتخابية مرفوقا بعدد كبير من المغفلين الثقافيين الذين رافقوه وآزروه فرحين متحمسين لان أحد أبناء الحي سيمثلهم أخيرا في المجلس الجماعي. لقد فاز بالمقعد طبعا، لكنهم لم يروه ثانية، و لم يتغير أي شيء في الحي.
لا تتوفر الأحزاب على برامج للتربية و التعبئة من اجل تدريب أتباعها و عامة الجمهور عليها، وغرس مبادئ الأحزاب في أذهانهم، لهذا تظل برامجها التواصلية منطقة رمادية ، لأنها لا توضح رؤيتها السياسية في مؤتمرات صحفية منظمة، أو لقاءات عامة مهيكلة ، ولأنها تفتقر إلى برامج تواصلية سنوية منتظمة، باستثناء بعض المناسبات التواصلية العامة الظرفية، خاصة عند اقتراب موعد الانتخابات، حيث تفتح الأحزاب دكاكينها شبه المقفلة خلال السنة، و تنصب خيامها في الساحات العمومية لاستقطاب الكتلة الناخبة .
خلال فترة الانتخابات، تتفق بعض الأحزاب، بما فيها الأحزاب التقليدية لليسار، مع عناكب رحل من خارج الأحزاب تتوفر على رأسمال اجتماعي مهم يضم شبكة محلية، إن لم نقل وطنية، من العلاقات النافذة، بهدف الفوز في الانتخابات، و مثل هؤلاء العناكب لا تعرف شيئا عن التوجهات الإيديولوجية للأحزاب، لأن هدفها هو الوصول إلى السلطة، والاستحواذ على بعض الغنائم.
إذا تتبعنا تاريخ العناكب الرحل في مستوى القاعدة، يتبين لنا أن هناك غيابا شبه تام للتعليم المدرسي، و للتكوين الحزبي على المبادئ و السلوك السياسي المثالي؛ إذ تترك العناكب المهرة لحالها تلتقط من الثقافة التي تعيش في حضنها ما شاءت من مهارات يومية و كفاءات، حتى تشق طريقها بصعوبة للوصول إلى موقع داخل المعترك السياسي. ما يحدث هو أن أغلبها لم تتلق أي تكوين في الإيديولوجيات و المذاهب، و لكن تنشئتها تمت وفق تطبع [هابيتوس] عنكبوتي ثقافي واقتصادي، باستعدادات جسدية و عقلية تهيئ العنكبوت السياسي أن يكون محنكا داخل بوتقة السوق الانتخابية، و من بين الاستعدادات والسلوكيات السياسية والمهارات الجسدية والتكتيكات التي يتم تدريب العنكبوت على اكتسابها في إطار الثقافة الريعية المارابوتية يمكن أن نذكر ما يلي:
المضايقة: بدأت اغلب العناكب السياسية مسارها التعليمي كطلبة منخفضي التحصيل الدراسي، ذوي تأثير باهت، و اطلاع معرفي ضئيل، وقليلي الاحترام للآخرين، مهيمنين على حلقيات النقاش، غير أن لا أحد ينكر وجود سياسيين ذوي كفاءة عالية و مستوى تعليم محترم، لكن عددهم قليل، و يتم إما اصطيادهم في شبكة العنكبوت، وإما إرغامهم على التواري في أركان الحزب البعيدة، وإما طردهم من الحزب من طرف العنكبوتية السياسية.
لحد الآن، سواء في المعسكر الإسلامي، أم الليبرالي أم اليساري، يلجأ العناكب إلى العنف اللفظي و الجسدي لتخويف منافسيهم أو الطلبة غير المسيسين، فقد نشرت وسائل الإعلام مرارا سجل أحداث تاريخية لاصطدامات عنيفة بين الناشطين السياسيين، خصوصا بين الإسلاميين و اليساريين، استعملت فيها السكاكين و السيوف، الشيء الذي يشير إلى دور العنكبوتية السياسية في صنع هؤلاء الناشطين، فالأحزاب السياسية لا تتوفر على مخططات بنيوية لتنظيم برامج تعليمية أو لقاءات تواصلية، و لا تقوم بزيارات للمدارس والثانويات لتعريف التلاميذ و الطلبة بالعمل السياسي و بالخطابية السياسية، و نادرا ما نجد طلبة نجباء يسعون للانخراط في الأحزاب. كيف يمكننا الآن أن ننتظر من أغلبية المغاربة الذين تطبعوا على سلوك الابتعاد من السياسة، أن ينخرطوا في الأحزاب و يشاركوا في اللعبة الانتخابية بعد عقود من المنع السياسي و تحويل الأحزاب إلى دكاكين لتقوم بدور ما في الدراما السياسية لديمقراطية الواجهة؟ إذا دققنا النظر في المنخرطين الجدد في الأحزاب على مستوى القاعدة، سنلاحظ عناكب فتية في طور التكوين، أغلبها أبناء للعناكب النافدة أو أقاربها، أو جيرانها أو معارف لها.
الفئوية: اتبعت مؤسسة المخزن ما بعد الاستقلال سياسة “فرق تسد الاستعمارية” للاحتفاظ بالساحة السياسية تحت السيطرة، و ما ساعد هذه السياسة على أن تكون مؤثرة، البنية العشائرية للمجتمع المغربي التي مازالت مؤسسة على البقايا الإيديولوجية للولاءات القبلية. مازالت الخطاطة الثقافية للعصبية تسير العلاقات الاجتماعية، وهي قابلة للانتقال عبر المجالات العامة المختلفة، من الاقتصادي إلى السياسي، وقد أنتجت السياسة المذكورة أعلاه نظاما حزبيا تعدديا بدون توجهات إيديولوجية واضحة، وبدون مشاريع مجتمعية يمكن بلورتها على ارض الواقع، كما خلقت انقسامات داخل التيارات السياسية الشعبية التقليدية مثل حزب الاستقلال و الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. كانت هذه الأحزاب منقسمة على ذاتها و متناقضة، ليس فقط بسبب فشل خطها الإيديولوجي، و لكن لأنها كانت أيضا نتاجا لنظام أوتوقراطي يمارس سياسة المراقبة الكلية ا[البانوبتيكون]. وفي سبعينيات القرن الماضي، ظهرت المعارضة الإسلامية باعتبارها خصما أساسيا للمعارضة العلمانية، ليغرق حقل السياسة بالمغرب في فئوية خطيرة تتغذى من الانقسامية الاجتماعية، و يصعب اقتلاعها دون تغيير النماذج الثقافية.
البحث عن الغنائم: نود أن نوضح في هذا المستوى من التحليل أننا نتحدث انطلاقا من وجهة نظر اثنوغرافية، تهتم أساسا بالسياسات الصغرى (الميكروية) على مستوى القاعدة الشعبية، إذ يبدو أن الكثير ممن يلتحقون بالأحزاب السياسية، وخصوصا تلك الأحزاب التي لا تتوفر على قاعدة شعبية ممتدة، هم عناكب بامتياز، إنهم يبحثون عن الغنائم، ويوظفون رأسمالهم الاجتماعي لانتزاع مقعد في السلطة، و إذا ما لاحظوا أن الحزب أرض قاحلة ، فإنهم يغيرون الحقل، و ينتقلون إلى مروج خضراء، حيث يكثر علف العشب الأخضر.
وعموما، تلتحق العناكب المبتدئة بالأحزاب للتقرب من شخصية نافذة [ركيزة] – عنكبوت من النخبة – ليكون رهن إشارتها كمنيع قادر يفتح لها أبواب الإدارات المغربية، و يمكن أن تلتحق العناكب بالأحزاب لأنها تلقت وعودا بالتشغيل، أو بحل قضايا قانونية، أو بالحصول على رخص [ السكنى، أو التجارة، أو سياقة سيارة الأجرة، أو ممارسة مهنة تحتاج إلى ترخيص قانوني]. و يتم تفعيل التطبع العنكبوتي المبني على البحث عن الغنائم من طرف جمهور المصوتين الفقراء الذين يرون في مناسبة الانتخابات فرصة للاستحواذ على غنائم صغيرة يسمونها [موفما]، فينتقلون من حزب إلى آخر، ويقدمون وعودا كاذبة لانتزاع مئات الدراهم من كل مرشح يعدونه بحصة من الأصوات، و لا تتوفر هذه العناكب المبتدئة الموسمية على نفس تجربة العناكب السياسية التي لها حنكة في ممارسة قواعد اللعبة الانتخابية.
الانتهازية: من وجهة نظر فلسفية، يمكن أن نجادل في أن الماركسيين راهنوا على أن الدين يفقد أهميته مع تطور وسائل الإنتاج، لكن تنبؤاتهم كانت مجانبة للصواب، لأن بنينة المجال الاجتماعي الديني قد تمت باستقلال عن الهياكل الاقتصادية في المغرب، كما يمكننا أن نتبنى رأي شطاطو [1996] الذي يميل إلى الاعتقاد بأن الإيديولوجية الماركسية لم تستطع محاباة المغربي العادي في طريقة تفكيره، لأنها كانت نخبوية و تجريدية، و لأن تفكير المغربي العادي يتغذى على الماربوتية، و لذلك فإنه يحتاج عملا سياسيا ملموسا و مؤسسا على الأخلاق و المواضعات و الاعتقادات الشعبية.
هل تعتقد عزيزي القارئ أن هذا الكشف الفلسفي هو الدافع وراء التحول الجذري لما كان يسمى بالماركسيين إلى الإسلام السياسي؟ هذا أمر لا يصدق من وجهة نظر علمية! ذلك أن المراجعة الفلسفية للأفكار عادة ما تتم عبر عملية طويلة من البحث النظري؛ و تحدث التقلبات المفاجئة و الكارثية بسبب الاصطدامات و الصدمات، و بعبارة أوضح، لا تتوفر العناكب الانتهازية الرحل على مبادئ قوية أو قناعات راسخة، فهوياتها السياسية تتسم بكونها غير مستقرة و متلونة تلون الحرباء؛ إنها مشكَّلة على منوال الثقافة العنكبوتية المارابوتية و الريعية التي لا هم لها سوى البحث عن الغنائم و الولاءات.
هل يمكن أن نصدق أن ماركسيا يرتحل بين عشية و ضحاها إلى المعسكر الإسلامي دون أي مراجعات فلسفية معلنة؟ وحدهم، حاملو أفكار الترحال هم من يسيحون بحثا عن الكلأ، إنهم هم العناكب الرحل. لقد نمت العناكب حواسها من خلال ممارستها لعادة البحث عن الغنائم، فالتحقت في البداية باليسار، لأنها اعتقدت أن مشروع توطيد النظام قد يدخل في أزمة، و يمكن أن تحدث بعض المفاوضات السياسية، و ستتمكن حينها من انتزاع نصيبها كعناكب، و لنكن واضحين حول موضوع المراقبة الكلية للانضباط داخل الأحزاب السياسية، و التي كانت و مازالت معطلة. و بالرغم من الأزمات السياسية و الاقتصادية التي مر بها النظام، فانه قد نجح في توطيد حكمه السلطوي، و بالإضافة إلى ذلك، شجع الإسلام السياسي على الدخول إلى معترك السياسة في السبعينيات، ليخلق توازنا في مواجهة المعارضة العلمانية. وبما أنه تأسس بإرادة النظام كباقي تيارات سياسية عدة، بدأ الإسلام السياسي كحركة مهادنة للسلطة، ولذلك اشتمت العناكب فيه رائحة “التمخميخة”، فالتفتت إذن نحو القادم الجديد، والتفت على نفسها في ثنايا شبكاته، و أصبحت الآن تلعب دور الآلهة المجسدة في المجرة الإسلامية.
- الخطيئة الأولى
خلال مرحلة توطيد النظام، أسست الدولة نظام مراقبة كلية مهيكل جدا، حيث يصعب الإفلات منه. و لم يمارس المخزن تكتيك المراقبة الدائمة فقط، بل استعمل كذلك العنف الجسدي و التخويف بصفتهما طقوس قوة، واستعرضها لإجبار جماهير الشعب على الخضوع إلى درجة أصبحت معها ثقافة الخوف منغرسة في المخيال الشعبي لدى الطبقات الدنيا في المجتمع، فقد اعتادت الأمهات عند مخاطبة أبنائهن على استعمال عبارات تحذر من وجود مفتشي بوليس خياليين، قد يسترقون السمع على حديثهم السياسي، وقد كان التعبير الثقافي عن هذا الخوف يتم عبر عبارات مثل : “سكت راه لحيوط عندهم ودنين”[“اسكت فإن للجدران أذانا]، “تدوي أبوك إيغبروك” [إذا تكلمت، سيتم حبسك في مكان غير معروف]، هني الوقت”[لا تخلق لنفسك مشاكل] و “تدوي في السياسة مشيتي”[ إذا تكلمت في السياسة، فاعلم انك ستكون من الغابرين].
في هذه المرحلة من التحليل، سنبادر إلى توضيح فكرة مفادها أن ثقافة الخوف ليست نتاجا سياسيا ما بعد كولونيالي للعنف المؤسساتي، بل هي مكون تاريخي ثابت في الثقافة الشعبية المغربية؛ فقد نجح المخزن في تخويف العامة، لأن مخيالهم الثقافي أرهق لقرون بسبب الرعب الذي مارسه عليهم السلاطين و القياد وزعماء القبائل [أمغار] و الغزاة الاستعماريون. وتبين ممارسات المس وطرد الجن “بالحضرة”، وموسيقى العيطة و الغيوان و أغاني خربوشة، كلها أن كثيرا من المغاربة عملوا على ترويض خوفهم الثقافي في ممارسات طقوسية، و أوضَح مثال على ثقافة الخوف المزمنة التي تشربها المغاربة خلال تنشئتهم الاجتماعية، هو القصة الأسطورية للسلطان لكحل التي سكنت المتخيل الشعبي لقرون، حيث كان السلطان لكحل رمزا لرعب السلطة الحاكمة وقمعها، فتاريخيا، كان هذا الاسم لقبا استعملته العامة للإحالة على أبي الحسن المريني أو مولاي إسماعيل، وربما يرتبط ذلك ببشرتهما السوداء.
لقد عرف مولاي إسماعيل بوحشيته القمعية و التعسفية ، وبعروض غير أخلاقية للتعذيب و قطع الرؤوس، كان هدفها هو ملأ قلوب الناس بالخوف [ قارن كرابانزانو، 1973:35-36]. ولقد كان الحاج التهامي لكلاوي قائدا يحمل اللقب نفسه –السلطان لكحل- في منطقة الحوز [باسكون 1984]، وفي سنة 1958 ، كان يملك 12000 هكتار من الأرض، و كانت له أسهم في مناجم الكوبالت و المنغنيز، كما احتكر توزيع الماء في منطقة مراكش، و فرض ضرائب على الناس، و تحكم في تجارة منتوجي الزيتون و اللوز [حليم 2000، 146] .
انطلاقا من سير الأولياء، لا توجد قوة على وجه الأرض يمكنها التصدي لذلك العدوان إلا بركة الولي، و حتى وقت قريب، شكل التقابل الثنائي بين الأولياء و السلطان لكحل رؤية العالم الثقافية للمجتمع المارابوتي الذي تنقل إلينا أساطيره حكايات الحروب بين السلطان لكحل و الأولياء، وفي الحقيقة، يمكن اعتبار السلطان لكحل رمزا أسطوريا، و تجسيدا لخوف الناس من أي سلطان أو مسؤول كان يمارس سلطة قمعية في تاريخ المغرب.
و يتم التأكيد في السرد الثقافي على أن الأولياء هزموا السلطان لكحل، مما يعني أن قوة السلطان لكحل دنيوية ، في حين أن الأولياء يستمدون بركتهم من قدرة الله المقدسة المطلقة التي بإمكانها تحقيق العدل على الأرض، وهذا يعد تعبيرا سياسيا عن الولاية التي يمكن تتبع جذورها التاريخية في الأساطير المغربية للأولياء وفي الممارسات المارابوتية؛ فيحكى مثلا أن سيدي مسعود بن حسين، وهو احد أولياء دكالة، قد أجهض هجوم السلطان لكحل حين رمى على أحصنة جنوده أكواما من النحل و النعر، كما أن بن يفو، و هو ولي معروف بالمنطقة نفسها، قد أرغم السلطان لكحل على الخضوع لسلطته بمساعدة جني متعدد الرؤوس؛ إذ تقول إحدى الروايات الشعبية للحكاية على لسان بعض “الشرفا” من دوار الكدية في منطقة الغربية “أن بن يفو خرج لمواجهة السلطان لكحل مصحوبا بجني أسود له سبعة رؤوس، و خلال مواجهة التحدي بين الاثنين، أمر السلطان جنوده بالقبض على الولي فما كان من الولي إلا أن أمر خادمه الجني بإسقاط السلطان من ظهر جواده، و برفعه إلى السماء. وحين فعل الجني ما أمر به، صرخ السلطان: “التسليم” [بمعنى الخضوع]، حينها أمر الولي الجني بإرجاعه ووضعه على ظهر جواده، و على إثر ذلك، هرب السلطان وجنوده بسرعة” [ للمزيد من التفاصيل حول الحكاية، أنظر معروف 2007].
لقد أخذت مثل هذه الحكايات المتعلقة بانتصار الأولياء على السلطان لكحل أشكالا أسطورية متعددة خلال فترة طويلة جدا. يبرز الأولياء في سيرهم التقديسية دائما مدافعين عن العدل و حماة للضعفاء، و لا يجب أن نفهم من هذا السرد التاريخي أن المغاربة جميعا كانوا مستهلكين سلبيين للخوف، فنحن لا نقوم هنا بوصف حشرات ملصقة على قطعة ورق؛ لقد كان المغاربة معارضين، و كانوا يعبرون عن مقاومتهم في الطقوس و الأغاني و الأمثال و الرقص، فهم لم يحاربوا بالوكالة، بل كانوا ينتظمون تحت قيادة الأولياء المرابطين حينما آمنوا ببركتهم والتحقوا بجيوشهم المرابطة، فخاضوا معارك بطولية ضد القمع الداخلي و الأجنبي.
بعد الاستقلال، ساهم الترهيب المنظم الممارس من طرف الأجهزة المخزنية القمعية في ترسيخ ثقافة الخوف و مأسسته، مما أدى إلى العزوف السياسي لدى القاعدة الشعبية، والذي تمثل في تدني مستوى مشاركتها في السياسة المحلية و الوطنية، و مازال جيل ما بعد الاستقلال الذي عزف معظمه عن ممارسة السياسة حيا يرزق، ويمكن اعتباره مسؤولا عن وصول العناكب إلى السلطة في الوقت الحالي. ربما قد نحتاج إلى أن نشتغل على جيلين، لكي نتمكن من استئصال التطبع الثقافي على المارابوتية و الريع، و نعيد توجيهه نحو ثقة أكبر في مؤسسات الدولة و حرية التعبير السياسي.
في ثمانينيات القرن الماضي، تعرض الكثير من العامة الأميين و غير المسيسين لعملية خداع انتخابية من طرف عناكب محترفة، و لازلت أتذكر أحد العناكب الذي قدم رشوة خلال العملية الانتخابية لنساء في شكل شربيل لكل واحدة منهن حتى يصوتن عليه، ولأنه عنكبوت ، لم يكن ليثق ببراءتهن، بل أعطى كل واحدة نعلا من زوج الشربيل، و احتفظ بالآخر حتى تظهر نتيجة الاقتراع. و في مناسبة أخرى، غير هذا المرشح العنكبوت من خططه، حين حمل جمهورا من المصوتين في شاحنات نقلتهم إلى ضريح مولاي عبد الله قرب الجديدة ليؤدوا القسم بداخله بأن يصوتوا عليه، ثم سلمهم مبالغ مالية في المقابل، علما انه كان بالإمكان توجيههم لأداء القسم بأقرب مسجد في المدينة بصفته فضاء مقدسا معياريا. لكنه، بعقلية العنكبوت التي تتشكل من التطبع العنكبوتي، كان على علم تام بالخوف المتخيل لدى المغربي العادي من انتقام الولي إن هو أخلف الوعد ولم يبر بالقسم.
وبالرغم من أن مثل هذه الأمثلة الفاضحة للتزوير الانتخابي لم تعد موجودة حاليا، فإن شراء الأصوات والولاءات، والتضليل الحزبي، و استقطاب الأعيان وذوي المال (مالين الشكارة) والنفوذ، و العزوف السياسي، و غياب أي تعبئة سياسية، و دعاية حزبية مبنينة، ظواهر مازالت منتشرة بأشكال مختلفة في السياسة المغربية. وإزاء هذا الوضع، نطرح السؤال نفسه الذي سبق أن وضعناه في مقال سابق حول العنكبوتية في الجامعة المغربية [جريدة الأخبار عدد 670/677 ]، وهو: ماذا فعلت الدولة لمعالجة هذه المشاكل، ولتربية رعاياها على المسؤولية المواطنة و الفاعلية السياسية، حتى يصبحوا مواطنين مسؤولين و يتصرفوا وفق ما يمليه الضمير؟
- المحول الثقافي
بالرغم من الانتقال السلس و الإصلاح التدريجي بالمغرب، مازال النقاش محتدما حول ما إذا كانت الإصلاحات كافية لأن يتحول المغرب إلى ديمقراطية شرعية بمؤسسات قوية، يمكن أن تحظى بثقة المواطنين، عوض أن يرفعوا شكاويهم باستمرار إلى الملك حول كل مشكل في حياتهم اليومية، فالمغربي العادي، كما هو ملاحظ، يعتبر الملك مسؤولا عن بناء طريق، أو مدرسة أو مستشفى في مدينته أو قريته، الأمر الذي يظهر ان الملك هو المؤسسة الوحيدة الجديرة بالثقة، والمؤسسة الوحيدة الفاعلة في ذهنية هذا المواطن العادي.
يعتقد مالك و عوض الله أن “الإصلاحات القانونية لا تؤدي بطريقة أوتوماتيكية إلى التغيير، لان النخبة تتوفر على قدرة استثنائية على التحجر، حيث يصبح بإمكانها قلب التغيير وجعله ملائما لمصالحها المتكلسة.”[2011، 2]. من وجهة نظر الاقتصاد السياسي هذه، حتى لو تم استبدال الفاعلين السياسيين الحاليين بآخرين جدد، فلن تتغير الوضعية تغيرا جذريا على الإطلاق، لأنها ستصبح مجرد تمظهر جديد للبنيات العميقة للسلطة؛ ويظل النظام على ما هو عليه. و وفقا لمالك و عوض الله، فمادامت البنية الاقتصادية الأساسية لم تتغير، لا شيء يمكن أن يتغير، فقد غادر حسني مبارك السلطة في مصر، لكن البنيات التي كانت تدعم نظامه بقيت متحكمة، وعادت بالتالي شخصية عسكرية أخرى للحكم، فالجيش يتحكم في الموارد الاقتصادية، ويحتفظ بقوة إقليمية باعتباره صانعا للسلام بالشرق الأوسط، و من هنا يبرز دوره الأساسي في أي انتقال سياسي في مصر. لنسأل، بصيغة التهكم، هل سيلتزم الجيش بتفكيك نفسه؟ الآن و العالم يشاهد النتائج، تم انتخاب أحد جنرالات الجيش، عبد الفتاح السيسي، رئيسا جديدا لمصر ليتولى دور المصلح السياسي المستقبلي و القائد للمصريين.
لاستكمال ما قدمه مالك و عوض الله من أفكار، نعتقد مع ماكس فيبر أنه بإمكان الثقافة أن تقود أيضا ! نعتقد أن المحول الثقافي (the cultural switchman) أساسي في الإصلاح السياسي الجاري، و ليس هذا من مسؤولية مؤسسات الدولة كما قد يبدو عليه الأمر، و لكن أيضا مهمة أساسية للمجتمع المدني. في الواقع، تتغلغل السلطة التحكمية لدولة الريع في عمق المجتمع المغربي، وتنتشر عبر مؤسساته الاجتماعية لدرجة أن آفاق التغيير الاجتماعي تبدو وهمية [أديب 2012]. و في هذا الصدد، قد تزعجنا مواجهة السؤال التهكمي نفسه الذي طرحناه من قبل في ما يخص الوضعية السياسية في مصر: هل ستفكك بنيات السلطة المخزنية بالمغرب القاعدة الاقتصادية الريعية التي تدعمها؟
يرتبط الجواب في الحالة المغربية ببعد نظر ممثلي السلطة، والطريقة التي يتصورون بها مقاربة متعددة الأوجه للإصلاح. و في الحقيقة، هناك دون شك خطر في الأفق يهدد الاستقرار في البلد، بسبب الاقتصاد الريعي الهش، و التحديات المحلية والإقليمية و الدولية التي تواجهها الدولة المغربية في هذه المرحلة. من الواضح أن اقل حالة ظلم يمكن أن تتعرض لها شريحة من السكان، قد تؤدي إلى التحريض على هيجان شعبي. إننا نعتمد فعلا على حكمة ممثلي السلطة المناضلين تحت قيادة المؤسسة الملكية، لتوحيد المجتمع على مشروع إصلاح ثقافي طموح، مع تفكيك بنيات اقتصاد الريع التي تدعم ثقافة الغنائم لدى العناكب، و التي تنتج النظام الاجتماعي الفئوي، حيث تصبح الغنيمة/الريع– المتمثلة سواء في الاستحواذ على المجهود و العمل الذي يبذلهما الآخر أم في استنزاف الثروات الطبيعية–مصدرا للثروة. إن ثقافة الريع هي التي يجب أن تنتقد بشدة، لكن السؤال المطروح هو : ما هي السبل التي تؤدي إلى القضاء على الذهنية الثقافية للريع؟ يظل السؤال معلقاً، لكنه يحتل مكانة جوهرية في أي إصلاح اجتماعي تقدمي بالنسبة للمغاربة.
و لأننا متفائلون، نظن أن الفرصة مازالت سانحة إذا ما أراد المغرب الدخول في حرب ثقافية ضد عقلية الريع و نتائجها الوخيمة المنتظرة، إذ نعتقد أن الوقت قد حان؛ فثقافة المواطنة ليست فقط برنامجا دراسيا يتيما يجب تلقينه في المدرسة كما يتم الآن، بل إنها أسلوب حياة يجب تدريب المواطنين المغاربة عليه، سواء في السياقات المؤسساتية أم في السياق غير الرسمي للحياة اليومية. و ينبغي أن يوجد تصميم سياسي غير متردد لتوحيد المجتمع حول هذا المشروع، كما يجب أن تتوافر مجموعة كبيرة و كاملة من الموارد الاقتصادية والسياسية والثقافية للنضال من أجل هذا الهدف المثالي.
لا يمكننا حاليا أن نستمر في العيش بثقافة الريع و الغنائم، إذ نحتاج أن نصوغ ولاءات وروابط اجتماعية جديدة لنوطِّد النسيج الاجتماعي، كما يجب علينا أن ندرب أنفسنا على الحوار و تدبير الخلاف و قبول الاختلاف، و ينبغي أن نعترف بسيولة حيواتنا، و هوياتنا و علاقاتنا الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية. إننا لا نحيا بالجوهر بل بحقائق مشكلة اجتماعيا. إن هذا النموذج الثقافي الجديد الذي يتضمن الخطاب الجديد حول الدين، و حول العلمانية و الثقافة العضوية للشعب، هو الذي يمكنه أن يبني جسور تواصل ثقافي حداثي، فالأسرة، والمدرسة، والمؤسسات الدينية، كما هي اليوم، لا تطَّعِم النظام المناعي للأغلبية بلقاح كاف، لتمكينه من مقاومة سم العناكب. إذا استمرت الدولة في صياغة سياساتها، في تجاهل تام لمواردنا الثقافية، فلن يستطيع المغرب أبدا أن يزيح من سمائه غبار عواصف الاحتجاج الشبابي غير المتوقعة ضد العنكبوتية.
في واقع الأمر، يمكن لإستراتيجية الاحتواء و السياسة اليومية للترقيع و “التسليك” المخزنيتين أن تكسبا بعض الوقت، لكن بعواقب كارثية محتملة بالنسبة للجميع على المدى البعيد، خصوصا، إذا ما وصلت عملية الصحوة ـــ كيفما كانت طريقة تبليغ رسائلها وإيديولوجياتها ـــ إلى أسفل الهرم الاجتماعي، حيث تقبع جماهير الشعب.
المطالب السياسية واضحة وهي: الإشراك السياسي، و بناء الديمقراطية و المجتمع المدني على أرض الواقع، و بناء نظام عدالة و نظام أمن مسؤولين و شفافين، و تأمين نمو اقتصادي مستقر مؤسس على الإنتاج، و كسب ثقة الشعب بخلق مؤسسات تمثيلية قوية تضمن حرية تعبير حقيقية، و مشاركة فاعلة في العملية المؤسساتية و أخذ القرار، ورسم خطوات حقيقية نحو الحماية الاجتماعية، و الضمان الاجتماعي، و تعليم الطبقات الدنيا، و احترام حكم القانون.
لا أحد ينكر الإصلاحات الاقتصادية المهمة التي قامت الدولة بتحقيقها مؤخرا على مستوى القاعدة الاجتماعية، لرفع المعاناة عن الفقراء، لكنها تسير بوتيرة بطيئة تمنع الوصول إلى المشاكل الحقيقية، فمازال المغاربة يطالبون بإصلاحات عميقة. لن يحقق الإصلاح الاقتصادي و الثقافي و السياسي نتائجه المرجوة، إذا لم تتوفر إرادة جماعية لتحويل النظام السياسي الموجه فئويا إلى نظام تشاركي، يضم كل الشرائح الاجتماعية و يستبدل الاقتصاد المؤسس على الريع باقتصاد مبني على الإنتاج ؛ حيث المسؤولية و المحاسبة تدعمان المجهود و المجازفة في العمل [حافظ 2009].
لا إصلاح يمكن أن ينجح إذا لم تتوفر إرادة جماعية لوضع اللبنات الأساسية لممارسة سياسية ذات بعد ثقافي، و تعبئة المجتمع و تحسيسه بأهمية الثقافة باعتبارها مكونا أساسيا في المواطنة، و إلا فإن التيارات المعارضة للهيمنة يمكن أن تفشل، تاركة المغرب في ركود تام، و بالتالي في خطر، لأن ذلك سيعيد بكل بساطة الوضع السابق. و للمحافظة على تيارات التغيير وتقويتها، يجب أن تتكون الخطابات حول المواطنة، و الديمقراطية و حقوق الإنسان داخل ممارسات ثقافية ودلالية محلية مستبطنة، و يجب أن ترتبط بها، حتى تصبح المواطنة الملقنة في الوسط المعيش للحياة اليومية واضحة في أذهان العامة بصفتها ممارسة مألوفة، و مواطنة ثقافية من السهل التعرف عليها [ستيفنس 2001]. إن البعد التعليمي للمواطنة باعتباره عملية بنائية في الحياة اليومية ، يقوي الأشكال الثقافية التحتية، و يدفع الطبقات الدنيا إلى الانخراط في النقد الذاتي و التطوير الذاتي لنماذجها الثقافية الخاصة؛ وفي هذا الصدد، يعتبر مدلول “المحول الثقافي” و تطوير المحولات الثقافية الصغرى (الميكروية) مكونين أساسين في الصراع ضد الهيمنة (لمسح شامل لموضوع “المحول الثقافي”، راجع محمد معروف وبول ويليس 2015).
د.محمدمعروف،أستاذ بجامعة شعيب الدكالي– الجديدة
د. محمد مفضل،أستاذ بجامعة شعيب الدكالي– الجديدة
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=14855