جريدة أخبار أزمور الجهوية بقلم د :محمد معروف
عند حلول العطل الأسبوعية و الأعياد و المناسبات الوطنية، و العطل الموسمية، خاصة في فصل الصيف، تترقب العائلات المغربية بفارغ الصبر إيصاد أبواب المدارس والجامعات قصد تحرير الجماهير الطلابية لمدة معينة من قيود المؤسسات التعليمية وأعبائها التي تقتضي تحصيل المعرفة والعلم. و عادة ما تستهل العطل الموسمية، كإجازة الصيف، بالتلذذ بالترفيه والاستجمام، خصوصا بالنسبة للعائلات الأكثر حظوة، أما أولئك الذين يقبعون في أسفل الهرم الاجتماعي، ويقاسون من اجل البقاء، صامدين تحت وطأة ضيق العيش وضنكه، فتجدهم يسيحون بحثا عن وظائف موسمية من تجارة متجولة، و حراسة سيارات أو أماكن ترفيه، إلى بيع خدمات متنوعة.
تتمثل عطلة الصيف في الذهنية الثقافية المغربية باعتبارها فترة استراحة مؤقتة تستمتع بها الذات الاجتماعية، وتتخلص أثناءها من كدح السنة الدراسية وعنائها، حيث تبتعد عن عالم الكتب، وتنخرط في تقاليد الفرجة والاستجمام . و يبدو عالم المعرفة والعلم من خلال هذا التوصيف، وكأنه نقيض لعالم الترفيه، إذ أن الواحد منهما قد ينفي وجود الآخر، مع العلم أنه من الممكن لهما أن يكملا بعضهما البعض، وأن يتواجدا مجتمعين في فصل الصيف. وفي هذا الصدد، تتبادر إلى الأذهان عدة أسئلة حول مفهوم “العطلة” في السياسة التعليمية التي تتبناها الدولة: كيف ينظر إلى مزاولة القراءة والبحث و تحصيل المعرفة في مستوى البنيات الماكروية الفوقية؟ هل حقل المعرفة مرتبط بغلاف زمني و توقيت إداري محدد؟ هل يجب ضبط ميدان المعرفة بفصول واستعمالات زمنية معينة خلال السنة؟ هل المدرسة مؤسسة إدارية عادية مرتبطة بتوقيت الإدارة المغربية وعطلها، حتى توصد أبوابها أيام العطل؟
إذا انطلقنا من النظرية العلمية القائلة إن الذات الاجتماعية تتبنين وتتشكل وتتطبع بتأثير البنيات والهياكل المؤسساتية التي تتحضنها، حيث تتحكم في اختياراتها، وترسم مساراتها، فينبغي أن نطرح السؤال: ما هي التمثلات و السلوكيات التي تنتج عن عدم وجود مكتبات عمومية في معظم جهات المملكة، وعن إقفال أبواب مكتبات المدارس والثانويات– إن وجدت– ومكتبات الجامعات في وجه كافة الشرائح الاجتماعية، بما فيها شرائح الطلبة والأساتذة أيام العطل و أثناء فصل الصيف؟
لا تستغرب عزيزي القارئ حينما ترى أوروبياً يحمل كتابا على شاطئ البحر، أو في مقهى، أو على متن قطار، لأنه تطبع على الكتاب كرفيق له مدى الحياة، و ترعرع في بيئة ثقافية تتخذ من السعي وراء المعرفة أسلوب حياة، إذ لا يلقن العلم في محيطها على شكل معرفة تقنية متخصصة مسيجة بجدران مؤسساتية و بغلاف زمني محدود فقط ، بل يتجاوز ذلك ليضم بنيات تحتية ضخمة و موارد اقتصادية تسخر لنشر المعرفة، وتوضع تحت رهن إشارة هذا المواطن المرفه لكي ينخرط في مجالاتها عند مزاولة أنشطة حياته اليومية، في هولندا مثلا، تفتح المكتبات العمومية أبوابها طيلة السنة في وجه عامة الشعب، بالإضافة إلى التلاميذ، والطلبة والباحثين باختلاف مشاربهم، وتجد مكتبات عمومية ضخمة في المدن مجهزة بمطاعم وكافيتريات وأكشاك، وقاعات ترفيه، وقاعات المحاضرات، و قاعات الجلوس، إذ تحتضن العضو الاجتماعي، وتشغل وقته في البحث والتحصيل، وتستقطب يوميا وافدين جدد بشتى الطرق، نذكر منها تنظيم محاضرات و أنشطة ثقافية، ومعارض فنون تشكيلية، وحفلات موسيقية راقية.
وفي المقابل، ببلد كالمغرب تنخر أحشاءه الأمية، وتعاني منظومته التعليمية من العزوف عن المطالعة، ناهيك عن أعطاب صادمة أخرى يعاني منها القطاع، يصير من العبث أن تغلق أبواب مكتبات الجامعات، و مداخل حفنة محسوبة على رؤوس الأصابع من المكتبات عبر التراب الوطني خلال فصل الصيف، وأحيانا في عطل موسمية أخرى، وكأن المطالعة والبحث عمل روتيني يرتبط بتوقيت إداري، إذ أن الأفكار، عزيزي القارئ، حسب هذه السياسة المتبعة، تواظب على حمية إدارية، ولن تزور ذهنك إلا في أوقات العمل الرسمية. نحن نعلم جيدا أن عالم الأفكار سيل من فيض لا تقويم زمني له، إذ يغمرك تدفق من الأفكار دون سابق إنذار، كما ترتبط المطالعة والكتابة بطقوس خاصة تتطلب فضاءات مهيأة لهذا الغرض تفتقر إليها جل مدننا، و لا يعقل أن يستمر معظمنا على تطبع / هابتوس يتمثل في مطالعة النصوص وتدبيجها على موائد المقاهي أو على مائدة الأكل، كما يفعل الكثير منا مستأنسين بترانيم صمام طنجرة الضغط التي تغلي تحت لهيب نيران الطبخ.
يجب على أصحاب القرار في قطاع التربية والتعليم، و على الذين يقومون برسم ” السياسات الثقافية الكبرى ” في هذا البلد، إدراك عبء المسؤولية الملقاة على عاتقهم، إن هم استمروا في تجاهل التقهقر المعرفي الذي تعاني منه الفئات الاجتماعية المتمدرسة . إن طالب العلم والمعرفة لا يتوفر على أجندة إدارية محددة، خصوصا وأنه يعيش في بلد يتداخل فيه الواقع المادي بالقدر، ولا يستطيع المرء ترتيب برنامج حياته حتى على مدى اليوم، فما بالك على مدى الأسبوع أو الشهر أو السنة كما هو الحال في دول أخرى. إن فتح أبواب هذه المؤسسات وتجهيزها بالكامل، وتشييد أخرى، وخلق فرص لتشجيع الأعضاء الاجتماعيين على المطالعة، سيساهم بلا شك في دعم الهوية الاجتماعية المتمدرسة وتعزيز رصيدها المعرفي، لأن مثل هذه البنيات التحتية تهيئ الأجواء، وتستقطب الناس للتدافع نحو الاطلاع و البحث والمعرفة.
إن ما نراه الآن من توزيع لمعرفة مؤسساتية موسمية مسيجة بغلاف زمني يتقاضى الأستاذ عليها أجرا، وترتكز على تلقين مهارات و كفايات خاصة لتمكين المستفيد من الالتحاق بسوق الشغل و كسب رزق عيشه اليومي– ثم انتهى الأمر– لن تؤتي ثمارها إن لم تدعم بالمعرفة العامة، والتي يجب التقعيد لها و إنشاء بنية تحية لإنتاجها، حتى يستطيع الفرد الانخراط في بناء مجتمعه في كافة المجالات. لا أظن أننا سذجا حتى نتوقف عند المعرفة التقنية دون توسيع دائرة الموارد المعرفية التي يمتح منها طالب العلم، لأننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى أمام إفلاس عدد كبير من النخب السياسية، و في حاجة ماسة ليس فقط لنخب تتوفر على مهارات وتقنيات في مجال تخصصاتها، بل إلى فكر متنور يحمل مشعل المعرفة، و ينشر الوعي السياسي والثقافي بين ثنايا و أركان المجتمع البعيدة. ونطرح هنا تساؤلا بلاغيا حول الجدوى من التركيز على المعرفة التقنية وإهمال المعرفة العامة: هل تستطيع المعرفة التقنية المتخصصة أن تنتج مثقفا عضويا يساهم في بناء المؤسسات المدنية منها و السياسية؟ لا يجدر بنا أن نعول كثيراً على المعرفة التأهيلية لسوق الشغل لبناء مشروع مجتمعي نرفع به تحدي العصرنة، وذلك لأن أبسط شروط المواطنة في المجتمع الحديث تقتضي منا توسيع دائرة معارفنا والاطلاع في مجالات متعددة تشمل جوانب مختلفة من الحياة المعيشة، ونكاد نجزم أن إنشاء مشروع للمطالعة و البحث، باعتباره بنية مؤسساتية في مجتمعنا تؤسس لأسلوب حياة جديدة، سيشكل لدينا ذلك الشيء الصلب الذي يمكننا العودة إليه لمواءمة محيطنا مع متطلبات الحداثة السائلة .
و على ذكر الحداثة السائلة التي تغزو ثقافتنا اليوم، نلاحظ كيف تهافتت الجامعة المغربية على نظام الوحدات والفصول، وتملصت من النظام السنوي القديم في إطار برامج استعجاليه فوق-تحتية، تطلبت تنفيذا عاجلا، وكأن الأمر يتعلق باكتشاف جديد سيخرج النظام التعليمي من المآزق الجامدة التي انعقل بداخلها، لكن كما عاين جل الفاعلين في القطاع منذ بداية الإصلاح، هناك مشاكل بالجملة يطرحها هذا النظام الجديد على مستوى التحصيل والتقييم، ونتساءل عن جدوى مدة الإجازة التي أصبحت تدرس في غلاف زمني لا يتعدى ثلاث سنوات على الورق، أما على أرض الواقع، فنحن نمارس التجربة الجديدة -القديمة ونستقصيها، إذ لا يتعدى الغلاف الزمني لنيل دبلوم الإجازة سنة ونصف دون احتساب العطل الرسمية، والتي عادة ما يتم تمديدها بقدرة قادر، فغالبا ما تتحول ثلاثة أيام إلى أسبوع أو أكثر، خصوصا في مناسبات الأعياد الدينية. لا يعقل أن نستورد ابتكارات الحداثة، والتي هي بالضرورة منطمرة في الثقافة التي أنتجتها، ويتم إنزالها مهبطة دون افتحاص مدقق للثقافة التي تكتنفها.
يجب أن نكترث للسياق الثقافي الذي يتضمن هذه الابتكارات الحداثية، إذ أنها لا تعمل في فراغ، بل تندمج في وعاء ثقافي يجب شذبه وتهذيبه ليلائم شروط المتغيرات الجديدة . إن نظام الوحدات الذي سافر إلينا من حاوية ثقافية غربية تتوفر على بنيات تحتية هائلة قعدت منذ سنوات طوال لثقافة المطالعة والبحث، ووفرت الكثير من الوقت الثالث لطالب العلم، أتاح له الفرصة للمطالعة والبحث، أما هنا في المغرب، فأين سنجد تلك البنيات المؤسساتية والمكتبات التي ستستوعب الطالب و ستستثمر في مؤهلاته؟ هنا تكمن الإشكالية، لأن نظام الوحدات يقتصر على مدة زمنية قصيرة في التدريس — بمعدل أربعين ساعة لكل وحدة، و عادة لا تدرس كاملة بسبب العطل و المدة الطويلة التي تستغرقها الامتحانات، نظرا لتقننة عملية إدخال النقط — مما يجعل الطالب في شبه عطلة أيام الذروة خلال شهري يناير و فبراير، كما أنه لا يستفيد من هذه الإجازة لغياب البنيات المكتبية التي يمكن أن تستوعبه، وكذلك لعدم برمجة ساعات المكتبة في استعمال زمن الطالب، حتى يصبح حضوره ضروريا.
وما نشاهده اليوم من تمثلات و سلوكيات تصدر عن الذات الاجتماعية لا ينبئ بمستقبل واعد في ميدان التسابق نحو المعرفة والعلم، لأن الشعار السائد في أسفل الهرم الاجتماعي، هو إهمال المطالعة والبحث. لا داعي أن أذكركم بالقول المغربي المأثور: “لوح الشكارة واخرج تلعب”، إذ تتمثل “الإجازة” بالنسبة للطبقات الاجتماعية الدنيا– تلك الشرائح التي نراهن عليها في تزويد المجتمع بحركات جماهيرية لنشر الوعي والنضال السياسي– كمناسبة للتحرر من أعباء التعليم ومشاكله، إذ أن التعابير التي تستعمل في هذه المناسبة تستقي دلالاتها الثقافية من لغة السجون، حيث يستخدم الأعضاء الاجتماعيون ألفاظ: ” تسيبت / تطلقت / تحررت” بمعنى ” أطلق سراحك “. هذا يذكرنا بالمنظور الفوكوي الذي يخندق المدرسة في خانة السجون في إطار منظومة المشتمل (البانبتيكون)، أو المراقبة الدائمة، إذ من وجهة النظر هذه، لا يوجد فرق بين السجن والمدرسة، لأن كليهما يلعبان دورا أساسيا في تطويع الذات الاجتماعية وتدجينها، و يعملان على ترويض سلوكياتها وتطبعها لتكتسب خطاطات ثقافية للرضوخ والاستكانة لنير الهيمنة السائدة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المقاربة الفوكوية تستنبط بشكل مختلف في أسفل الهرم الاجتماعي، إذ أن العضو الاجتماعي حين يصنف المدرسة باعتبارها سجنا، ففي مخيلته إذن، تحتل هذه المؤسسة مكانة دونية، وينفر من قوانينها وتقاليدها، إذ تؤرقه وتقلق راحته، وتؤثر فيه سلبا ، لأنها تخضعه لنظام صارم يكتم حريته ويتحكم في مصيره: مرهق هو بكثرة المواد، و التمارين، و التلخيصات، والامتحانات، و الواجبات المنزلية، والساعات الإضافية التي أصبحت موضة لهذا الجيل الجديد من المتمدرسين، وهنا نضع السؤال: كيف يمكننا أن نعيد بناء الذات الاجتماعية لتتطبع على حب المدرسة والسعي وراء المعرفة، حتى لا تستطيع أن تفارق جدران المدرسة، وإن حدث أن خرجت منها عادت لتدخل مؤسسة المكتبة مرة أخرى متلهفة لالتهام الكتب والانغماس في البحث؟
جرت العادة حين يصل موعد نهاية السنة الدراسية أن يخرج الأطفال والشباب راكضين إلى الشوارع يهتفون بانعتقاهم من روتين التدريس و ضغط الفروض و الامتحانات، ومحنة الواجبات المنزلية، وهكذا تقفل المؤسسات التعليمية أبوابها، وتتجه أنظار الشباب نحو الشواطئ، والشوارع، وقاعات الرياضة، والساحات العمومية حيث تنظم المهرجانات الموسيقية، وغيرها من أماكن الاستجمام. و ما يثير الانتباه، هو امتلاء الشارع الرئيسي في المدينة على آخره في فصل الصيف بالمارة المتجولين المتسكعين، خصوصا وقت الغسق، حيث ترى الناس في حركة دائبة يتجولون ذهابا وإيابا دون هدف محدد. يبدو أن الكل منخرط في المشي و التحديق) التبركيك) إلى درجة أن الشارع الرئيسي في مدن عدة يطلق عليه اسم “شارع شفوني”، هذا بغض النظر عما يحصل أحيانا في الشارع من ظواهر اجتماعية أخرى من تحرش وعربدة لا يتسع المجال لذكرها في هذا المقال.
لا داعي لسرد المزيد من الأمثلة عن طرق الاستجمام في العطل الموسمية، لأن ما يهمنا في هذا الموضوع، هو كيف يتم قضاء العطلة بعيدا عن عالم المطالعة والمكتبات. يبدو أن هناك تطبعا اجتماعيا يصنف المعرفة باعتبارها مسألة تقنية، و كما ذكرنا سابقا ترتبط بغلاف زمني، مضمنة في فضاء القسم، وانتهى الأمر . لا توجد أي ضرورة لمزاولة المطالعة أثناء فترة الاستجمام : فمن الحماقة أن تركب الأمواج على ظهر كتاب! هذا النقص في الخطاطات الثقافية المتعلقة بالمطالعة ناتج عن تقصير المؤسسات التعليمية والعمومية في القيام بدورها على أكمل وجه، لأنه لا يعقل أن تغلق أبواب مكتباتها في فصل الصيف، وترمي بالشباب إلى الشوارع، إذ تظهر المدينة خالية تماما من مظاهر المطالعة نظرا لعدم وجود فضاءات تحث الناس على زيارتها واستغلال بضع ساعات من وقتهم الثالث في المطالعة وقراءة الكتب. ما معنى أن تسد أبواب المكتبات خلال العطل؟ ما معنى وجود مدن وأحياء بدون مكتبات، ونتحدث عن ملاعب القرب، وكأن الملاعب هي قدرنا لاستكمال الاستحقاقات المنتظرة؟ في مغرب ما بعد الحداثة، تغلق أبواب المعرفة حين تفتح أبواب الطرب والموسيقى والترفيه، وترى الشباب يتسكعون حتى شقشقة الصباح. آه! وكأنني أروي قصة الصرار والنملة التي نحتت في ذكرياتنا، نملة تشقى وتكد وتطالع وتبحث، و صرار يطرب ويرقص ويستلقي فوق عشب الحديقة معربدا على المارة حتى الصباح، وا فرجتاه! وا حسرتاه!
من النتائج التي نحصدها يوما بعد يوم عن عدم تطبع الذات الاجتماعية على المطالعة، هو اعتقاد الكثير من المغاربة أن الشهادة والدبلوم و الوظيفة تساوي نهاية المشوار الدراسي، فبالتالي، يودع العضو الاجتماعي عالم الكتب، والتحصيل، فور تعيينه، و قد يتمسك البعض منهم بمطالعة الصحف . وأستدل في زعمي هذا بالتصميم الهندسي للبيوت المغربية، خصوصا عند الطبقة الاجتماعية الوسطى، ولا داعي للحديث عن الطبقات الاجتماعية الدنيا التي ساخت في بطن المدينة، تكافح من اجل لقمة العيش. نحن نتحدث عن الطبقات الاجتماعية التي تتوفر على إمكانات تستطيع من خلالها الإقلاع بعالم المعرفة في المغرب. و يتم تصميم الشقق و المنازل لدى هذه الطبقات عموما إلى غرف جلوس، وغرف نوم، و صالونات، وغرف استقبال، إذ للضيوف مكانة خاصة في الذهنية الثقافية المغربية، ومن الضروري أن تجد “بيت الضياف” في المنزل، لكن الغائب الأكبر هي غرفة المكتب، إذ لا تستغرب، عزيزي القارئ، إن سقت لك أمثلة عن أساتذة باحثين يتقاضون تعويضا مهما عن البحث العلمي، ويزاولون هذه “المهمة” فوق مائدة الأكل المستديرة، بالرغم من وجود صالون فارغ ينتظر استقبال الضيوف، و يمكن استغلاله للدراسة . إن غياب غرفة الدراسة في هندسة المنزل المغربي لدليل قاطع على غياب هذه الممارسة في الذهنية الثقافية، لأن البنية المادية للمنازل وتأثيث فضاءاتها تعكس نمط تفكير الحاضنة الثقافية التي تتضمنها .
و لما غزت الأفلام الأجنبية الساحة الثقافية بالمغرب، حاولت بعض الفئات من الطبقات الوسطى و الشرائح الاجتماعية حديثة الغنى التماهي مع حياة العائلات الأوروبية، ولو بشكل مزيف، فاقتدت بها في نمط حياة الترفيه وأسلوب الديكور، و ضارعتها في تأثيث فاترينات المنازل والشقق بالكتب والمجلدات محاكية الفضاء المنزلي في أوروبا بشكل مصطنع، بالرغم من أن نمط حياة الطرفين مختلف تماما، وهكذا ظهرت موجة “الكتاب الديكور ” إلى درجة انتشار مجلدات بلاستيكية يقتنيها المغاربة من الأسواق المغربية، و يؤثثون بها بيوتهم مضاهين بذلك الحياة الغربية، مرسخين مجتمع الزيف الضارب في جذور وهم المعرفة.
وإذا ظن أحد منا أن التكنولوجيا الرقمية كفيلة بتعبيد الطريق نحو حل معضلة العزوف عن المطالعة والبحث، و ضامنة أيضا لتمكين الشباب من الالتحاق بركب المعرفة والعلم، فانه واهم، لأن التطبع الثقافي على حياة الترفيه والاستجمام والاسترخاء و “النشاط” كأسلوب حياة، إبان العطل، خارج أسوار المؤسسات التعليمية لن ينتج، إلا ذهنية ثقافية مشابهة تعتمد السلوك نفسه وتنطلق من المعتقد نفسه عند ولوجها إلى العالم الافتراضي، انظر كيف حولت الهواتف الذكية المواقع الاجتماعية إلى دروب وأحياء افتراضية يقتسم فيها الأعضاء الاجتماعيون الفكاهة، والسخرية، والفرجة، وجميع أنواع الدردشات التواصلية، هذا بالإضافة إلى تزاحم التلاميذ أمام المنضدة الأمامية لدكاكين الإنترنيت، في طوابير تنتظر شراء نصوص جاهزة حول مواضيع طلب منهم إنجازها كتمارين منزلية، فعوض أن يجلسوا على الكراسي، ويقوموا بالبحث بأنفسهم، يفضلون شراء الخدمة من صاحب الدكان بدرهيمات قليلة، حيث يساوي البحث عدد الأوراق المنسوخة التي يتم تزويدهم بها، وتتلخص العملية في عدد الأوراق. هذا يذكرني بقصة صديق تشاجر مع أمه حين كان طالبا، فرمت بكتبه إلى الشارع، متهمة إياه بإحداث الفوضى في صالون الضيوف، لأن أوراقه كانت مبعثرة في كل مكان أيام الامتحانات، ما أثارني في القصة هو ما قالته أمه له عند رميها لكتبه: “هز علي كواغطك من هنيا”. وفي هذا السياق، لا أظن أن هذه الأم هي الوحيدة التي تفكر بهذه الطريقة، و تصنف المعرفة بوصفها كواغد (كواغط)، بل حتى شباب اليوم كذلك، حيث يتردد على دكاكين الإنترنيت، ويشتري المعرفة بدرهيمات قليلة قياسا بالأوراق أو الكواغد التي تطبع عليها المعلومات، و لا يكلفون أنفسهم حتى مراجعة ما زودهم به صاحب الدكان.
إن تحول التكنولوجيا الرقمية إلى أداة فاعلة للبحث والسعي وراء المعرفة يتطلب منا ترسيخ التطبع الثقافي على المطالعة داخل فضاءات ومؤسسات عمومية وأكاديمية مخصصة لهذا الغرض، حيث تضحي جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية للذات الاجتماعية، لأن المؤسسات والبنيات الحاضنة تشكل السلوك الاجتماعي تبعا لتقاليدها وقوانينها وأعرافها. لن يكون المغرب جاهزا لرفع تحدي العولمة السائلة، إن ظلت هندسة فضاءاته العمومية بمكتبات مؤثرة غائبة عن الوجود.
يبدو أنه من الصعب علينا حاليا دخول العولمة الاقتصادية والثقافية دون بنيات قوية تمكن أبناء هذا الوطن من استغلال موارده الثقافية والتعليمية، لأن البنية التحتية تعتبر اللبنة المؤسسة للسلوك والتطبع، فبدون مكتبات عمومية (قروية وحضرية) لن نتمكن من تثبيت ثقافة المطالعة، وستظل المطالعة الممأسسة في الفضاء العمومي، خصوصا خلال العطل الموسمية، ضربا من الخيال، لهذا نضع الدولة أمام مسؤولياتها في إعادة النظر في السياسة الثقافية المتبعة، وفي تهيئة الفضاءات، والبرامج الكفيلة بترسيخ روح المطالعة والسعي وراء المعرفة كأسلوب حياة بالنسبة للأجيال القادمة، وإلا سيسيل عرق أناملها عبثا في الضغط على أزرار الهواتف الذكية، باعثة برسائل افتراضية تستصرخ الأمم المتقدمة لإنقاذها من هول التيه والضياع.
د.محمدمعروف،أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=18865