ازمور انفو24 بقلم : الجيلالي طهير
ينتمي استمرار العلاقات بين الإنسان والأمكنة إلى هذا النوع من الإحساس الذي يربط الكائن الإنساني بعائلته، ووطنه، وكان تَولد عنه ظاهرة الوقوف على الأطلال في الشعر الجاهلي وعبادة آلهة العائلة عند الرومان. مدينة برشيد، بالنسبة إلي، متربعة في الوجدان؛ لكن أزمور التي دفنت فيها زهرة عمري اليانعة، تسكن في اللاوعي، وهي غير قابلة للنسيان. إن بعض المدن أسسها الغزاة، وأخريات أسسها الفاتحون والسلاطين. وتلك أزمور، زيتونة برية، نبتت في غفلة من آلهة الشعوب القديمة، عند مصب نهر أم الربيع، قبل أن يولد الغزاة والفاتحون. هي كانت هنا ، ولا تزال، منذ الفنيقيين، وكان احتلها الرومان، ثم الوندال والبزنطيون، قبل انتشار الإسلام. وعندما كانت فاس لا تزال قرية، كانت أزمور مدينة مزدهرة، و لم يكن تمة أثر لمدينة اسمها مراكش. وأما بلاد أولاد حريز، فكانت كما خلق الله الكون، بتعبير صديق حميم، مثقف أزموري نزيه، حفيد الولي سيدي فارس بلحسن، سليل الولي مولاي بوشعيب السارية.
أزمور حاضنة أولاد حريز .
في اللقاءات الناذرة التي تجمعني مصادفة بهذا الزميل، بعد مغاذرتنا الطوعية سويا الوظيفة العمومية، لا بد وأن يكون بيننا نقاش، ونحن نمارس رياضة المشي، فنعرق وننشف ولا ينتهي النقاش. ذات مرة، استعرض علي ملخص قراءاته لكتاب ” الهويات القاتلة” للمفكر نبيل معلوف، ويفتتحه صاحبه كالتالي: ” كثيرا ما سألني الناس: هل تشعر أنك فرنسي أم لبناني، وكنت أجيب: هذا وذاك”. هذه العبارة تذكرني بسوء فهم وقع بين الصديق وبين رئيسه باشا المدينة، الذي رقي فيما بعد إلى أعلى مرتبة في أسلاك رجال السلطة. ظن وهو يركب مع الباشا سيارته، خلال عطلة الأسبوع، أنهما يقومان بجولة عادية كأصدقاء عاديين، خارج أوقات العمل. وفجأة، أوقف الباشا سيارته، عندما رأى عربة بائع متجول تحتل الطريق العام، وقال لصاحبي: “أنا سأخطف الميزان، وأنت خذ المكاييل”. أجابه بتلقائية: ” لن أغادر هذه السيارة، أنت موظف متنقل، اليوم هنا، وغدا هناك. وأنا لي أولاد مزدادون في هذه المدينة، الناس ينادونني باحترام، ولا أريد أن أخسر السمعة الطيبة “. بعض رجال السلطة يؤمنون بمقولة ” أنا ومن بعدي الطوفان”، ونبيل معلوف يقول: ” لّما شعر المهاجر بأن ثقافته الأصلية محترمة، انفتح أكثر على ثقافة البلد المضيف”.
من يبحث عن العلاقة بين أزمور وأولاد حريز يجد بأنها كانت الملاذ الآمن لعصاة القبيلة كلما أفلحوا في عبور النهر فرارا من المحلة السلطانية. وقد اختار الحطاب بن عثمان المنياري الحريزي، أحد كبار المتمردين، مدينة أزمور لتزويج بنته إلى الأمير سلامة، أخ السلطان المولى سليمان. ولقد توفي الولي سيدي الجيلالي العميري، زوج محجوبة، بنت الحطاب المنياري، الأخت الشقيقة لزوجة سلامة بمدينة أزمور، حيث يقبع ضريحه بين الجامع الكبير وباب الواد بالمدينة القديمة.
تتكون أزمور من مجموعتين سكنتين، المدينة القديمة المحادية للنهر والكتلة السكنية المحيطة بضريح الولي مولاي بوشعيب السارية. تعتبر المدينة العتيقة، وهي حضارة ومعمار بدون زوار، في عداد الأموات، بينما تنتعش المنطقة المرتبطة بالضريح من التجارة الصغيرة والسياحة الدينية للولي مولاي بوشعيب. والمتجول صعودا نحو الضريح، لابد وأن يعبر درب برشيد ودرب الحاج حمو، مرورا أمام فران عكور، قبل الوصول إلى دكان السيدة الباشة، بائعة الفخار. والمتصفح لأرشيف الحالة المدنية ببلدية أزمور، سيكتشف بأن أول لقب مسجل، بكنانيشها هو الاسم العائلي ” حريزي”، نسبة إلى الباشا ادريس بن الجيلالي بن عمرو، الذي صادف وجوده على رأس باشوية أزمور افتتاح مكاتب الحالة المدنية بها، سنة 1951. إن السوق البلدي لأزمور مشيد فوق الملك المسمى ” فندق الشاوي الحريزي”. وتوجد بأزمور الكثير من العائلات الحريزية ، الضائعة الجذور، ممن انصهروا في بوثقة واحدة مع الساكنة الأصيلة أو الطارئة، وتقاسموا معهم الهوية الأزمورية. من بينها عائلة الفتح ، والدهم العائدي، أحد قدماء هواة سباق الدراجات بالمغرب، كان استقر بدرب خلوق، خلف ضريح مولاي بوشعيب، وأحفاده لا يعرفون سوى أن تربتهم القديمة كانت موجودة في دوار الميلودي الجبار، مشيخة تعلاوت، إيالة العائدي بن احسين.
من الإزدهار إلى الخريف.
عرفت أزمور مراحل الازدهار والثراء والقوة، تبعتها مراحل التقهقر والركود والانهيار. البلدة لم تكن مركزا تجاريا وعمرانيا مزدهرا فحسب، بل صرحا ثقافيا ودينيا رائدا، كما يشهد بذلك السبق العلمي والثقافي الذي حققه أبناؤها منذ فجر الاستقلال. عشرات المثقفين والفنانين مروا من هنا، وحده المبدع السي بوشعيب الهبولي، في تواضع الكبار، يفرش “لحيته” في مقاهي الشارع الرئيسي، يستفزني من بعيد، كما كانت تستفزني عن قرب دار الفنان العالمي روبنس، بساحة ميير، خلال المقام بمدينة أنفرس الجميلة.
ففي أيام العز التي شهدتها مدينة أزمور، كانت حنطة صيادي السمك تقدم للسلاطين هذية سنوية مقدارها 100 قطعة من سمك الشابل، الأكلة المفضلة عند الأثرياء. والمتصفح لوثائق الميزانية القديمة لأزمور، سيجد في قائمة المنقولات السنوية، فصلا يتكرر من سنة لأخرى لغرض التذكير، يتعلق بقرض ممنوح لمدينة الجديدة ، ألغي ولم يسدد قط.
ينبغي القول بأن قصاصات الأخبار، والنواذر، والأساطير مهما بلغت من السخافة، لا يجب الاستخفاف بها في علم الاجتماع كونها مفيدة للتوضيح واتباث الوقائع. وكمؤشر على البحبوحة التي كان ينعم بها أهل أزمور، نقرأ في إحدى الجرائد الفرنسية لسنة 1938 ، أن صيادا من أزمور أقرض جزارا من مدينة الجديدة قدرا من المال. ولما عجز هذا الأخير عن تسديد الدين، لم يجد سبيلا غير التخلص من دائنه، فقتله وهو غارق في نومه.
وفي دراسة أنجزها جان دارلي، مدير المدرسة الإسلامية بأزمور في عهد الحماية، يربط هذا الأخير بين الإنقطاع عن انتاج مادة الحناء بأزمور وتقهقر المدينة. واعتمادا على المعطيات الإحصائية الرسمية، يقول بأنه في سنة 1920، كانت المساحات المزروعة بالحناء لا تتعدى 110 هكتارا في مجموع المغرب، منها 90 هكتار بأزمور. ثم ارتفعت الرقعة المغروسة بالحناء تدريجيا ، لتصل 425 هكتار في مجموع البلاد، سنة 1926، منها 340 هكتار بأزمور. هذه المساحات ستتقلص لتبلغ 171 هكتار فقط بالمغرب منها 140 هكتار بأزمور سنة 1931. والسبب في ذلك يعود إلى المنافسة التي أخذ يتعرض لها المنتوج المحلي، بعدما شرعت سلطات الحماية في استيراد المنتوج العراقي ، “حنة بغداد”، بأثمنة منخفضة، مما دفع باليهود الذين ينشطون بالقطاع إلى بيع دكاكينهم وترك المدينة. التجارة تقرب بين الشعوب المتباعدة، وعندما يترك اليهود الديار، فذاك مؤشر على أن التجارة ليست على ما يرام. وكذلك تبعهم التجار المسلمون نحو مدينة الدار البيضاء وإلى الجديدة وفاس ونواحيها إلى غير رجعة.
يتضح هذا الانكماش من خلال انخفاض عدد الساكنة في تعداد سنة 1931، بالمقارنة مع تعداد سنة 1926. حيث تراجع مجموع عدد السكان من 9127 نسمة إلى 8718 ، وتقلص عدد السكان اليهود من 750 نسمة إلى 526 نسمة، بالموازاة مع تراجع عدد التلاميذ بالمدرسة اليهودية، من 323 تلميذ إلى 292 تلميذ.
في مقالة بعنوان ” يهود مغاربة، ومغاربة يهود” ، نشرتها مجلة ” الأزمنة العصرية ” باللغة الفرنسية ، عدد أكتوبر 1977 ، يشيد إدمون عمران المالح بكتاب : ” تاريخ المغرب” للمفكر الموسوعي، عبد الله العروي، كونه تخلص من المنهج المفروض من طرف المدرسة الكولونالية، ويأسف على تجاهله للدور اليهودي في المجتمع المغربي.
لابد من الإشارة إلى أن الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929، والتي تأثر لها الاقتصاد المغربي، بشكل متأخر، بداية من سنة 1931، أجهزت على الصناعة التقليدية بأزمور، وأجبرت معظم الصناع على النزوح؛ وبأن انخفاض عدد السكان المسلمين يعود أيضا إلى افتقار المدينة إلى وحدات صناعية عصرية ، الشيء الذي وضعها خارج الطريق الرئيسية للهجرة القروية من الجنوب نحو السهول الأطلسية، خلال فترة المجاعة الكبرى، والزحف الأكبر نحو المدن.
على سبيل المقارنة، تم تعيين أحمد بركاش الرباطي باشا على مدينة أزمور سنة 1930، واستقبلته الساكنة بحفاوة كبيرة . وفور نزوله من على سيارته أمام بوابة المدينة، وجد في استقباله فرسان الشياظمة و هشتوكة، وامتطى حصانا من أجود الخيول، قاده نحو المسجد، حيث تلا عليه قاضي المدينة ظهير التعيين. ومباشرة بعد ذلك، توجه إلى مقر البلدية حيث رحب به الأعيان والشرفاء ومختلف الشخصيات. وفور انتهاء المراسيم، التحق بالمسكن الخصص له ، وسط جو من الزغاريد، وأصداح الموسيقى الشعبية.
وفي منتصف السبعينيات، تم تعيين محمد برشيد الحريزي باشا على مدينة أزمور. عندئد، زاره في بيته بمركز سيدي علي أفراد من أولاد سيدي عمرو بلحسن، يباركون له المنصب الجديد ، فقال لهم بحضور طباخه، المرحوم محمد أوفقير الصنهاجي: ” الخير اللي تديروه فيا، ادعيو ليا مع جدكم يطيرني من هنا”. ومن سخرية الأقدار أن قيادة شعبية وازنة ببرشيد، في حجم عبد القادر البكري، رجل التحديات، الذي طلب من الملك محمد الخامس طرد الباشا برشيد الأب من المنصب سنة 1956؛ وانتقل إلى الرباط لتقديم شكاية ضد خلفه الباشا مولاي الطاهر العلوي بسبب تجاوزاته سنة 1961؛ وأسس وتزعم نقابة الاتحاد العام للشغالين ببرشيد على رأس 3000 عامل يشتغلون بالقاعدة الجوية للنواصر؛ وسجل المقر النقابي بالنواصر باسم النقابة وليس باسمه الخاص، كما فعل باقي القياديين النقابيين، يقول سعيد العثماني، سيحرم من صفة مقاوم، ومن أشياء وأشياء، ليقضي بقية حياته كمحارب لم يعرف الحرب، في مدينة الأولياء المجاهدين الصامتين إلى الأبد . وعلى الرغم من أخطاء التقدير السياسية، ظل الرجل هو نفسه الرجل الذي تسيطر عليه عزة النفس، لم يفتح دراعيه أبدا لغير مبادئه، ولم يقدم الولاء لغير حزبه الذي تنكر لتضحياته ( الصورة أعلاه).
هل تحولت أزمور إلى منفى عقابي للمغضوب عليهم من طرف الإدارة؟ نتذكر، أو قال لي، عندما كان السي إسماعيل الساهل خليفة مقاطعة، من الدرجة الثانية، بعمالة سطات سنة 1971، كان يقضي عطلته الأسبوعية ببرشيد، عند بوعزة ولد العياشي، صاحب محطة الوقود، وكان إثنين من زملائه يشتغلان أحدهما خليفة بعمالة سطات والثاني بإحدى المقاطعات الحضرية بمدينة الدار البيضاء. تلك كانت البداية، وها هي النهاية. تقاعد السي إسماعيل الساهل، رحمه الله، وعاد إلى مسقط رأسه بزاوية سيدي إسماعيل، غاضبا على نهاية المشوار كخليفة مقاطعة بأزمور، يلهث خلف عربات الباعة الجائلين، بينما أحد الزملاء يجلس في منصب الكاتب العام لعمالة الجديدة، والثاني، صهر الوزير، عاملا على إقليم المحمدية ( الجريدة الرسمية عدد 3141 و3179 سنة 1973/ فرنسي).
ثم جاء صيف 2017، فتناقلت الصحف حاثة الاعتداء بالضرب والجرح من طرف ناشط جمعوي على مقام رئاسة المجلس البلدي لأزمور، الرمز المعنوي للمدينة، وهو يزاول مهامه بمكتبه بالقصر البلدي. لا يمكن تصور حدوث ذلك، وما حدث ذلك من قبل، ولكنه حدث بأزمور كنتيجة للتحالفات من أجل الإمساك بالسلطة أعطت رئيسا أعزلا، لا يستند على حزب قوي، قوة مالية، رأسمال ثقافي واجتماعي، أو مظلة مخزنية واقية. الطريق إلى السلطة غير الطريق إلى المجد، فلا سياسة بدون اقتصاد، والزعيم الذي يمكن أن يعيد الأمجاد ينبغي أن يكون احترامه أكبر. ” من ضمن مظاهر الانحطاط شعور البعض بلذة غريبة في إذلال نفسه ، والنيل منها ، في التهجم على الطبقة التي ينتمي إليها والسخرية في كل ما بدا حتى ذلك الحين جديرا بالاحترام”، يقول عالم الاجتماع الإيطالي باريتو.
ثنائية الأصيل والدخيل
ونحن نمر بهذه النقطة الحساسة، لابد من الإشارة إلى أن مدرسة علم الاجتماع ، التي نكتب وفق منهجها، لا هي بالديموقراطية، ولا هي بالاشتراكية أو الرجعية. وإنما نشاط فكري يميز بين السياسة وبين الأخلاق، والهدف تحليل دور المشاعر والغرائز في التصرفات الاجتماعية، والبحث في قوانين الأشياء والظواهر، من دون التساؤل عن شرعيتها أو عدمها، عن فائدتها أو عدم فائدتها. وطبيعي أن يشكل هذا المنهج مصدر إزعاج للطوباويين، وجميع الذين يرفعون شعارت المساواة والتعادلية لبلوغ مطامح شخصية ( فيلفريدو باريتو). أكرر ذلك، لأن “أوهام المسرح” ( فرنسيس بيكون) دفعت بأحدهم إلى التعليق على سلسلة مقالاتي بعنوان ” السياسة والأوهام ببرشيد”، بالقول بأن الشعراء في كل واد يهيمون. والواقع أنه استعصى عليه التمييز بين مصطلح ” ماكيافيليان” ومصطلح ” ماكيافيليك”. إن المصطلح الأول يخص التنظير السوسيولوجي الهادف إلى تعرية الكوميديا الأخلاقية؛ بينما المصطلح الثاني يخص الممارسة السياسية الشيطانية المخادعة.
Une distinction entre les termes de machiavélien et machiavélique. Le premier terme correspond à l’analyse théorique, le second à la pratique de la politique qui consiste en tromperies plus ou moins diaboliques.
يتحدد شكل المجتمعات بالمصالح وبالمشاعر والغرائز. وفي هذه الحالة، ليس المجتمع سوى التوازن بين القوى السياسية والثقافية التي تؤثر على الآخرين، وتحاول إقناعهم بصحة الاستنتاجات التي يحصلون عليها من خلال ربطهم الأشياء والظواهر بالأفكار والمبادئ التي يعتنقونها. ومن هذه الزاوية، بالإمكان تأويل المجتمع الأزموري ، سواء تعلق الأمر بتعامل مكونات النخبة مع بعضها البعض ، أو من خلال المشاعر المشتركة تجاه الأطراف الطارئة التي يصطلح عليها ب “البراني”.
يعتبر زعماء الرأي في أزمور بعضهم البعض خصوما وليسوا أعداء، وإن علت النبرة، فهي لا تخلو من الرأفة والرفق، على أرض الواقع، لأنهم العائلة الكبيرة الواحدة. وينظر للأفراد الذين يسيؤون بكتاباتهم إلى سمعة المدينة، من داخل البيت العائلي، عن طريق اختزال حركيتها في الظواهر السلبية التي لا تخلو منها مدينة، على أنهم “هامشيون”، أو “حاقدون”، أو” مجهولوا النسب”.
وأما العلاقة مع العناصر الطارئة فهي جد ملتبسة. هؤلاء ينظر إليهم على أنهم أجانب ، ” برانيون”. هناك أجواء من التوثر لا تزال ترخي بظلالها على العلاقات بين ساكنة أزمور وساكنة الجديدة، شأن جميع مدن العالم العتيقة التي تتضايق من ظهور مدن منافسة لها بالجوار، مثل فاس ومكناس، سلا والرباط، الخ. عندما قرر السلطان سيدي محمد بن عبد الله تعمير مدينة الجديدة، جلب إليها بعض العائلات اليهودية من أزمور، ثم انضاف إليهم يهود آخرون قادمون من جهات أخرى. هؤلاء، كانوا يتميزون عن اليهود المتأصلين من أزمور، ودائما على خلاف معهم، ولا يقبلون أن أن ينعثهم أحد بالأزموريين. وعلى صعيد آخر، لم يكن يسمح للأغراب من المسلمين الذين توافيهم المنية بأزمور بالدفن في مقبرة الولي مولاي بوشعيب السارية، وإنما في مقبرة خاصة يطلق عليها “روضة الغرباء”. وقد تم القضاء على تلك المقبرة، التي كانت موجودة خلف ” لاراديج”، بعد تجميع رفاة الغرباء ودفنهم في حفرة جماعية بمقبرة مولاي بوشعيب.
لا شك أن هذه الأمثولة مزعجة، ولكنها طبيعية بالنسبة للتاريخ القديم. لو عدنا للتاريخ المقارن، لوجدنا بأن سبارطة كانت ترفض منح حق المواطنة للأجانب، ولم يكن لأرسطو الحق في المشاركة في تدبير الشأن العام بأثينا ، بسبب ازدياده بمقدونيا. فقد ظل طيلة حياته يحمل صفة ” براني” ، ” ميتيك”، أي يسكن بيننا، وليس منا، إلى أن لفقت له تهمة الإلحاد بالمعتقد الأثيني، وصدر في حقه الحكم بالإعدام، على خلفية أصوله المقدونية.
Le statut de “métèque” signifie “celui qui habite avec nous”. ‘il est “chez nous ” , mais n’est pas “comme nous”. Il vit, travaille, se marie, fait souche, réalise des affaires mais aucun de ces critères ne lui donne droit à la citoyenneté.
إن مدينة أزمور لا تعيش فيها الأسرار. ففي منتصف الستينات، عين رجل من مواليد الجديدة، اسمه السي المختار، شيخا حضريا بأزمور، وكان يحكمها آنذاك خليفة حضري بالنيابة عن الباشا، ورئيس مجلس بلدي، يقال أنه لم يبق مثله كثيرا في الجمع بين الرجولة والتعصب للمدينة. حكى لي السي المختار رحمه الله، وكان رجلا حنونا وبشوشا، وبمثابة والدي: ” تصادف تعييني بأزمور مع التهيئ لإحتفالات عيد العرش، وأثناء تزيين الشارع الرئيسي بالرايات، لاحظت أن رئيس المجلس يتحدث إلى الخليفة، ويرفع رأسه باتجاهي. وفي المساء، استدعاني الخليفة إلى مكتبه، وأسر لي: ” قال لي الرايس، لاش صيفطو لينا هذاك، واش حنا عندنا خيرية؟ إن ما يقال عنك، يقال عني، فلا تهتم بما يقال”.
نحن في هذا السياق، نقترب من مقاربة ” الصديق والعدو ” في التنظير السياسي لكارل سميت وجوليان فروند. وأكيد أن العداوة هنا لا تعني الحرب، وإنما توخي الحذر من الأجنبي ومن الدخيل. هل نبالغ؟ إنه الجو العام، وبداخل القاعدة العامة يوجد المنغلقون عن الذات الذين يندفعون نحو المركز، والمنفتحون الذين يميلون تلقائيا نحو المحيط . على رأس هؤلاء المتسامحين، أصحاب القلوب الكبيرة، يوجد المرحوم محمد الطلوحي الذي سارت بذكره الركبان في إنفاق الأموال الكثيرة على المعوزين من مسلمي ويهود أزمور، وعلى أيتام الجمعية الخيرية الإسلامية بمدينة الجديدة، دون اسثتناء.
لا شك أن السلوك تجاه الآخر، الجالس معنا وهو ليس منا، تحدده تكوينات ذات طابع سيكولوجي، أسس لها العلماء والفقهاء والوطنيون، وكانوا أصحاب رسالة جهادية، يحتاطون من المستعمر الأجنبي خوفا من الاستعباد ومن الإقصاء.
« Là où il n’y a pas de patrie, les mercenaires ou l’étranger deviennent les maîtres ». (Julien Freund)
ولقد درس الجنيرال داماد العقلية الأزمورية عند غزوه للمدينة. ومنذ البداية، اقترح على أعيانها تكوين مقاطعة مستقلة، فاقترحوا من بينهم الجيلالي الوعدودي لرئاسة الكيان المستقل. لا يوجد حي أوروبي بأزمور، مثل باقي المدن المغربية، من شأنه المساعدة على تلاقي الأطراف المتنافرة. فقد أخذ الفرنسيون مساحة بينهم وبين ساكنة أزمور، ولم يتجاوز عدد الساكنة الأوروبية بها 15 فردا سنة 1926، و 17 فردا سنة 1931.
الآن، وعلى الرغم من تلاشي الأفكار القديمة، مع زوال الأشياء المبررة لها، تستمر الوحدة المعنوية بين الأموات والأحياء. إن الخوف من التهميش، في مدينة غارقة في الفقر والإهمال، لم يعد له من مبرر غير الأوهام. وأسوأ الأوهام ذلك الوهم الذي يدفع إلى رؤية الأوهام في كل مكان. دخلت على الرئيس السي المختار التومي، طيب الله متواه، في مكتبه في يوم من الأيام، فوجدته دامع العينين، مجروحا من فرط الإحساس بالظلم، أو أنه استعاد ذكريات المرحوم والده، وكانت جريدة حزب المعارضة بين يديه. فتح إلي قلبه وقال: ” يكتبون بأني أقود السيارة وأنا ماسك ولدي بين يداي، ويتوهمون أني أتكبر على الناس. والله أنا لا أعرف التكبر. هم لا يعلمون أني كنت أشعر بالسعادة مع والدي عندما كان يضعني بين يديه وهو يقود الحافلة بنفس الشارع، وأنا أكرر نفس الشئ مع ابني “.
في حوارات مسلسل الأرابيسك ، لأنور عكاشة ، يطرح فنان تشكيلي أسئلة حول كُنه “الهُويَّة المصرية”، مستخدما صورة مجازية عضوية تنتمي لعالم الجسد، حيث شبّه مصر بمعدة دخلتها أنواع مختلفة من الأطعمة (كناية عن الحضارات المختلفة) . كذلك كانت أزمور ” أرابيسك” أيام الزمن الجميل. وإذا كانت كلمة الأفضل تذل على المستحيل، فأزمور الحاضر والمستقبل تستحق الأفضل.
…
الصورة: عبد القادر بكري، القيادي النقابي في الستينات.
.
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=30986