جريدة أخبار أزمور الجهوية:بقلم د.عبدالفتاح الفاقيد
1 ـ إضاءات عامة:
يطرح مفهوم “الثقافة الشعبية” إشكالا فكريا وفلسفيا، وتتحدد دائرة الخلاف حول قيمتها الرمزية والوظيفية داخل النسق الثقافي العام الذي يتم تشييده وفق استراتيجيات معرفية وعلمية وحضارية وعقلانية، في مقابل “الثقافة الشعبية” القائمة على أساس عناصر هجينة يحكمها التناقض، إذ يتداخل في تكوينها الديني بالخرافي؛ الواقعي بالتخييلي؛ المنطقي بالخارق.
تبعا لذلك، أقصى العديد من المفكرين “الثقافة الشعبية” من دائرة الاهتمام، إذ يذهب “عبد الله العروي” إلى تأطير الخطابات التي روجت للفولكلور ضمن سياق تاريخي يصطلح عليه بالخطاب الما بعد كولونيالي الساعي إلى الترويج السياحي و السياسي. وموقف العروي من الفولكلور هو الرفض لأنه يعبر عن الانحطاط والدونية التاريخية للبنية الاجتماعية التي تبلور داخلها، في مقابل “التعبير” الذي يشكل خلفية جوهرية لبناء النسق الثقافي..
نفس الموقف يتبناه محمد عابد الجابري في سياق مشروعه الفكري حول “تكوين العقل العربي”، حيث يعتبر أن العناصر التكوينية للثقافة الشعبية لا تمت بصلة للعقل ولا تعكس تجلياتها العقلانية المطلوبة في مشروعه النقدي.
ملاحظات سقناها على سبيل التنوير، لإبراز الوضع الإشكالي الذي تطرحه “الثقافة الشعبية”، وإن كان لا يعنينا، في هذا السياق، التفصيل في أبعاد الخلاف والجدل الدائر حولها، بل ما يهمنا هو الإشارة إلى مسألة إنصافها من طرف الانثربولوجيا والإثنوغرافيا وعلم النفس وكلها خلفيات فكرية وابستيمولوجية أسهمت في تقديم نسق معرفي متكامل حول الثقافات الشعبية ووظائفها الذهنية والرمزية.
لذا نسعى إلى تقديم بعض الصور العامة والعناصر البنائية الخاصة بالثقافة الشعبية لمدينة آزمور، والتي تجسد قواعد مركزية في تشكيل لا وعيها المشترك وذاكرتها الثقافية والتاريخية والاجتماعية.
بداية، نقترح تعريفا إجرائيا لمفهوم “الثقافة الشعبية” : هي ثقافة شفوية مشتركة بين مجموعة بشرية ذات صلات تاريخية وإثنية ولغوية ودينية، وهي نتاج الممارسة اليومية، تجمع بين الديني والخرافي؛ المعقول والخارق؛ الواقعي والمتخيل”.
2 ـ تخييل الفضاءات:
تمثل العلاقة بين الإنسان والفضاء الذي يحتويه علاقة جدلية تسهم في تشكيل ذاكرته و تأثيث نسقه الذهني والتخيلي، تبعا لما يقدمه ذلك الفضاء من تنويع جغرافي. لذا يأتي فضاء البحر، نظرا لانفتاح مدينة آزمور على واجهة بحرية وأخرى نهرية، في مقدمة الفضاءات التي تستمد منها الثقافة المحلية عناصرها التخيلية والخرافية، وحضور “الماء” في تشكيل البنية الذهنية المحلية يستمد أساسه من فروض دينية مقدسة ومن الموروث العربي الإسلامي الذي يؤمن بقوته الرمزية (التطهير/التدنيس). وبمدينة آزمور يمكننا حصر مجموعة فضاءات مرتبطة بالماء : (حجرة بيبور؛ ضريح عائشة البحرية؛ سيدي وعدود؛ سيد البين، الخلوة). مواقع ترتبط بإيحاءات ذهنية وسلطة رمزية تصل حد التقديس اعتقادا بقوة مفعولها في فك الثقاف، وجلب السعد و تمكين النساء العازبات والعوانس من الحصول على فارس الأحلام أو الحصول على عمل، أو تطويع عصيان الرجل، أو إزاحة من تنافسهن في قلي أو جيب الرجل. ولا تتم شروط الزيارة إلا بالعوم أو الغسل بماء تلك الفضاءات. وتتأسس سحرية الماء على خلفية أسطورية هي حكاية العشق الذي جمع بين “عائشة البحرية” و”بوشعيب الرداد” وانتهت بانفصالهما بواسطة خيط ماء جرى من دمع العاشقة المكلومة بعد وفاة معشوقها، وهي التي تجشمت وعثاء السفر من بغداد إلى آزمور.
من المواقع المرتبطة بثيمة الماء في بعده المدنس نذكر: (حجرة مو الرواح؛ باب الجياف؛ المجزرة القديمة) فضاءات نسجت حولها الكثير من الحكايات: فهي مقر الجن والعفاريت التي تعاقب من يقتحم مواقعها بالجنون أو شل أطرافه أو امتلاكه بالزواج أو بالحكم عليه بالعزلة عن الناس، ونظرا لارتباط تلك الأماكن بالصيد والصيادين فنجذ حكايات ترصد علاقات التوتر بين الإنس والجن منها نجاة بعض الصيادين أو العابرين من غضب الجن بغرس سكين في الأرض؛ أو بترديد التعاويذ؛ أو آيات من القرآن لأن المعتقد المتداول هو خوف الجن من الحديد، واحتراقه بتلاوة القرآن …. خرافات نسجتها الذاكرة وأضفت عليها المخيلة المحلية تفاصيل غريبة وخارقة منحت تلك المواقع طابعا أسطوريا مدثرا بالخوف والرهبة وتجنب طرقها أو السير فيها ما بين العصرين، باعتباره زمنا مختلطا.
3 ـ رمزية الأضرحة داخل المخيال المحلي:
تأملا في بقية الفضاءات نجذها اكتست طابع التقديس والتبجيل، و تحولت مع مرور الزمن وكثرة الحكايات الراصدة لأسرارها العجيبة وقدرات أصحابها الخارقة، وأضحت مصدرا للتخييل والتخريف. نقصد في هذا السياق المزارات والأضرحة والزوايا والأحواش التي يجهل أصحابها، منها حوش “لآلة ميمونة” دفينة منطقة ” سيدي غالم” والتي قدمتها الحكايات المحلية على أنها زوجة السلطان الأكحل ملك الجن، وتملك القدرة على علاج العديد من الأمراض النسائية، هذا قبل أن يتم حفرها ليلا من طرف الباحثين عن الكنوز. وحوش “مول العود” الذي صورته الحكاية من أولياء الله الفرسان، قتل وفرسه ودفنا معا، وحوش “عبد الكريم الغريري” الخاص بعلاج اللوزتين والحنجرة، و”سيد الشتات” الذي يعتبر حوشه محكمة المظلومين وفضاء للانتقام من الظالمين.
كثيرة هي الحكايات الشعبية التي تحدثت عن الكرامات المترتبة عن التبرك بالمزارات والأضرحة المنتشرة داخل كل درب أوحي، حتى قيل عن آزمور مجازا: “أنها تنبت الأولياء كما تنبت الأرض البقول”، والتبرك عادة راسخة في الذهنية المحلية، فرضته سياقات اجتماعية واقتصادية عديدة: منها الأمية والفقر والنقص الحاصل في الخدمات الطبية، وقلة المستشفيات، وهو ما دفع المعتقد المحلي إلى تحويل آزمور إلى مستشفى متعدد التخصصات بتعدد الأضرحة والمزارات، منها المتخصص في تسكين ألآم الأضراس، والمتخصص في الروماتيزم والمفاصل ” كسيدي بنور وسيدي بولكعيبات” واللائحة طويلة.
أما الضريح القطب والمزار الجاذب فهو” بوشعيب الرداد” الذي نسجت حوله حكايات تجمع بين الخارق والعجيب، وباسمه اشتهرت المدينة، محج النساء من مختلف الأعمار طلبا للنسل والولادة، وخاصة مطلب نسل الذكور، لخوفهن من هجر الرجل الباحث عن وريث لاسمه والمخلد لذكره. وفي ذلك روايات عديدة تشهد بتحقق مرادهن وتحولهن من العقم إلى الخصوبة، وإنجاب الذكور بدل البنات، حتى قيل في المثل الدارج: ” مولاي بوشعيب عطاي العزارى بلا حزارى”، وقد دأبت النساء المحليات على زيارة الضريح كل خميس للتبرك أو الشكوى، وهو ما يفسر الارتباط الوجداني بذلك الفضاء باعتباره مكانا للبوح السيكولوجي وللحرية. وللزيارة شروطها منها المبيت وتقديم القرابين في شكل ذبائح تختلف باختلاف الهدف من الزيارة، ويكون أقلها تقديم الشموع “الضو”.
من زاوية أخرى، نشير إلى الموقع المتميز للضريح، المطل على ربوع المدينة، باعتباره وليها وحارسها الأمين، وفي الروايات الشفوية ما يبرر هذا الاختيار: فروايات ترجع السبب إلى مواجهته للأسوار البرتغالية التي حاربها قدفها بمدافع إيمانه وتهجده.وتقابل حكايات أخرى موقعه بموقع حبيبته “عائشة البحرية” التي ظل يناجيها عبر الرياح التي سخرها الله لخدمته، كما سخر له أسدا لحراسته؛ أو للسفر إلى بغداد للقاء صديقه عبد القادر الجيلاني. وتذهب الذهنية مذهبا ثالثا إذ تجعل باب الضريح قطبا تقابله جميع أبواب بقية الأضرحة، وتضرب مثلا بباب ضريح “محمد بن عبد الله” الذي كان يتهدم ليلا كل ما تم تحويل وجهته، أو يصاب عمال البناء بالفالج؛ وتطاردهم اللعنة والكوابيس.
3 ـ تخييل المناسبات والأعياد الدينية:
ترتبط المناسبات والأعياد الدينية بالعديد من الطقوس والممارسات الكرنفالية وفق ما تتميز به الثقافة الشعبية المحلية من خصوصيات وتأويلات يتقاطع عندها الديني بالأسطوري والموروث الشعبي بعادات وتقاليد هجينة تعود لثقافات أخرى يهودية؛ وأمازيغية؛ وبرغواطية؛ وشيعية (…).
تأكيدا لما سبق، نذكر مظاهر الاحتفال بمناسبة “عاشوراء”، مناسبة تزاوج بين مجموعة من الطقوس المتناقضة، هي أيام للفرحة وزرع البسمة في وجوه الأطفال؛ والتوسيع على الأسرة وترديد الأهازيج والأغاني الشعبية التي تمجد “بابا عيشور” باعتباره شخصا أسطوريا يطوف أيام “عاشوراء” موزعا هداياه وهباته، وكأنه يشبه “بابا نويل في الثقافة المسيحية. لقد كانت المرأة، قديما، متواضعة في طلباتها ويتجلى ذلك في لازمتها الغنائية: ” اليوم العواشر الحنة والتقاشر”. هكذا تكثر بيع الفواكه الجافة واللعب، ويغتنمها الأطفال مناسبة لإضرام النار في إطارات العجلات، وبتشجيع من الكبار، قصد محاربة الشعوذة والدجل وإبطال السحر وطرد الجن بالدخان.
تحتفل الذاكرة المحلية “بليلة القدر” احتفالا خاصا، فإذا كانت المرجعية الدينية تعتبرها ليلة مقدسة “تتنزل فيها الملائكة”، فإن الثقافة الشعبية تجعلها ليلة لنزول ” سيدنا قدر” الذي يلبي طلبات من يفوز برؤيته، شرط أن يختم الطلب بترديد: (( أسيدنا أقدر أعطيني…..بالقدر))،أي بما يكفي، وإلا نال جزاء “المرأة القرعة” التي تحول شعرها إلى نقمة لأنها أخطأت الدعاء وقالت ” أسينا أقدر أعطيني الشعر بلا قدر”. ويعتقد أيضا أنها ليلة إطلاق سراح الجن، وتغتنم النساء المناسبة لممارسة السحر والشعوذة.
أما عيد الأضحى فيتم استقباله بالعديد من الطقوس والممارسات الشعبية، إذ يصطلح على ليلة العيد ” ليلة دكان الحنة” أو يوم “عرفة” حيث تكون النساء ملزمات بدق الحنة والقرنفل والريحان والورد، “أي مواد النفقة”، في الهاوون “المهراس” ، ولا تزيلها المرأة إلا بعد “تشويط” رأس الأضحية، وذلك حتى لا يحترق شعر رأسها. وتحج طائفة من الناس للمزارات المجاورة “عبد الله أمغار” ” عبد الله التيباري” للطواف و يسمونه “حج الفقراء”، ولا يتورع الناس في تلقيبهم بأسماء “الحجاج”.
ويوم النحر لا تذبح الأضحية إلا بعد إطعامها “عرفة”، ويتم نحرها على قطعة من “النقرة” و “الداد” الذي يستعمل لعلاج “الشقيقة”. ومن العادات الأثيرة أن يبيت “لوح الكتف” داخل الأضحية يسمى “بوهروس”، حتى لا تصيب العائلة لعنة تكسيرالأواني، ويتولى رب الأسرة قراءة الطالع من خلال “بوهروس”. ويرتبط عيد الأضحى بالعديد من الطقوس المتوارثة منها “القديد”؛ “الكرداس”… وغيرهما. وتكون لعبة “حليلو” أو “زمزم”، في اليوم التالي، وتشكل آزمور استثناءا إذ تحتفل بها باقي المدن في “عاشوراء”، وقواعد اللعبة هي رش الماء البارد لإطفاء آثار التخمة.
شكل “فن الحلقة” مدرسة فعلية أسهمت في تكريس مجموعة عناصر شعبية ومحلية، من خلال إعادة إنتاج التجارب والسلوكات اليومية في قوالب تخييلية تتحول معها متاعب الناس وهمومها إلى “ملهاة” للضحك والسخرية، فالحلقة مدرسة ثقافية شعبية تقوم بدور معرفي ونقدي، عبر تنسيب الظواهر والممارسات الشاذة. ومن أشهر روادها الذين شكلوا مدارس قائمة بذاتها نذكر:
ـ “زعطوط” الذي نسجت حوله العديد من الحكايات والأمثال الشعبية منها: إذ تحول إلى شخصية نمطية يضرب بها المثل في مناسبة التعرض للظلم الاجتماعي من خلال المثل الجاري “فلوس اللبن يديهم زعطوط”.
ــ ” ولد قرض” : الشخصية الفكاهية التي خبرت حكاياته خصائص المجتمع الزراعي وسلوكات أشخاصه.
ـــ “خليفة” صاحب “الكمنجة” الذي اتسمت شخصيته بالمرح والسخرية، عاش ومات فقيرا، ومن سخرية الأقدار أن تباع “الكمنجة” التي رافقته طيلة حياته بالملايين لأنها من صنع ماركة “ستاديفاريوس” العالمية.
ــ “البهجة” الراوية الذي قدم “الأزليات” و”السيرة الهلالية” وبطولات “سيف ذي يزن” و”العنترية”…وتحكمت قواعده السردية في بناء العوالم التخييلية لأجيال عديدة.
عموما، كانت “الحلقة” حاضرة بكل ثقلها في ترسيخ الثقافة الشعبية، وفي توجيه الذائقة الجمالية المحلية، ولنا عودة إلى هذا الموضوع في مناسبة لاحقة.
ذلك غيض من فيض الموروث الشعبي الذي يؤسس النسق التمثلي للذاكرة المحلية، بما هي ذاكرة موغلة في التاريخ وفي علاقاتها بالفضاء، وهي محكومة بصيرورات يتداخل فيها المعطى الطبيعي والديني والسياسي، فيكون التخييل توسيعا لهوامش الحرية ولخلق التناغم مع وضعيات تتجاوزنا باستمرار، ولا يمكننا بحال من الأحوال إغفال تلك القيم الثقافية المعبرة عن الجوانب الخفية من بنيتنا اللاشعورية، ويكون من المفيد إخضاعها للعديد من المقاربات الشمولية يتداخل فيها التاريخي بالسوسيولوجي والنفسي بالأركيولوجي …وذلك وفق استراتيجيات علمية صارمة حتى نتمكن من بناء معرفة حول الذات.
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=19526