ازمورانفو24:
تقوم الحضارات على تدبير مُحَدّدٍ للزمن. إن إبداع تقويم (روزنامة Calendrier) هو أحد العناصر المميزة للثقافات، وحول هذا التوزيع الزمني تنتظم الحياة الاجتماعية بكل مظاهرها وطقوسها، وبالارتباط بهذه الهندسة الاجتماعية والثقافية للوقت يتحقق الاجتماع البشري فتجدد المناسبات وتحل الأعياد ويتم استرجاع الذكريات الفردية والجماعية، ذلك أن الزمن الاجتماعي زمن ثقافي، يُعطي لكل حدث قيمته الوقتية ومساحته داخل الفضاء وضمن السلوك والممارسة الجماعية وداخل الذاكرة الجمعية. والوعي بالزمن شيء، أما تدبيره فشيء آخر، فقد تباينت المجتمعات ومازالت تختلف في تقديرها للوقت، في الطرق التي تُدبِّرُه بها، وفي المعاني والتمثلات والتصورات التي تصبغها على كل لحطة وفترة وحقبة من زمنها، ثم إن الزمان أزمنة، متداخلة تارة ومتلاحقة تارة أخرى.
انتبه بعض الأنثروبولوجيين إلى أن الزمان في مجتمعاتنا التقليدية قابل للتشخيص في صُوَر خيِّرة وشريرة. في هذا الصدد، من الصعب قياس علاقة ناس دكالة بالوقتّ، وقيمة هذا الأخير عندهم على نحو دقيق وموضوعي، يحتاج الأمر إلى القيام بدارسات جادة لنعرف أي وقت هو نفيس عند عموم الدكاليين وأيها لا قيمة له؟ وماهي المُتَغيرات التي تُحدِّد طبيعة هذه العلاقة؟ وما من شك فإن دراسة من هذا النوع ستكشف عن كنوز تراثية وخبايا شعبية تستحق التوثيق والتحليل (على صعيد التصوُّرات والتمثلات الثقافية مثلا)، ناهيك عن كونها ستكون مناسبة لتدوين المزيد من الأرصدة الشعبية المحلية.
ومهما كان الأمر، فمازال للزمان الطبيعي في عمق دكالة والمجتمعات القروية بعض الأثر، رغم أنه ومنذ زمن طويل فقد الإنسان في هذه المناطق ارتباطه الكلي بالزمان البيولوجي الصِرف، أي العيش حسب تعاقب الليل والنهار، كما كان الحال عندما كانت مراقبة الظِلال أحد أهم الوسائل إلى معرفة التوقيت، وهي وسيلة بمؤشر فضفاض، وكانت الحاجة إليه خلال اليوم تتصل بأمور تعبدية على سبيل المثال (فبالظل كانت تعرف أوقات الصلوات النهارية).
كان يوم انعقاد السوق الأسبوعي، ومازال، أحد أهم أيام الأسبوع، فهو اليوم الفارق، إنه بداية أسبوع ونهاية آخر. زمن محوري بكل معنى الكلمة، حتى أن مناطق من دكالة تُنسب إلى الأسواق التي يرتاده سكانها: موالين الثلاث، موالين التليثة، أو الجمعة وهكذا.
وإذا كانت الثقافة الحديثة تتحرك بمنطق اقتصادي قوامه أن الوقت هو المال time is money، فإن المجتمع التقليدي الدكالي يرى أن ثمة أزمنة لا تقاس بمال: ركوب الخيل، قضاء وقت كاف في موسم التمتع بالتبوريدة وباقي الأنشطة الشعبية، إرسال الطير الحر…والحق إن لكل مجتمع أزمنة لا تقدر بثمن.
يعيش اليوم الناس في بلاد دكالة بوسائل تنتمي إلى أزمنة متعددة، متراكبة، بعضها فوق بعض، وبعضها يتقاطع مع بعض: بعضها ينهل أصول من عصور قديمة، وبعضها الآخر شبيه بما هو معروف في أحدث المجتمعات، وحسبنا للتدليل على هذ الأمر عقد المقارنة بين الكيفيات التي يتم بها قطع المسافة بين نقطتين من أرض دكالة: حيث تقضي العربة المجرورة بالدابة زمنا طويلا وتلتهم السيارة ذات المسافة في وقت قصير. فالأزمنة متعدد بتعدد الوسائل.
وفي سياق متصل، سبق لنا أن قمنا بدراسة حول صناعة الفخار بالجابرية حيث وقفنا على مفارقات ثقافية كثيرة نذكر منها واحدة هنا: فصانع الفخار يتعاون مع ابنه المتعلم على صناعة أواني طينية ذات أشكال قديمة جدا داخل دهليز قديم (توفري) ثم يحملان مصنوعاتهم الطينية في سيارة مع بضائع بلاستيكية ويقومان ببيع كل ذلك في الأسواق الأسبوعية. ينتمي كل عنصر من عناصر هذه الواقعة إلى زمن مختلف من حيث الذاكرة والخبرات والمرجعيات والمعارف وتصور العالم…وهم جميعا يجتمعون في (التوفري) وفي السيارة العصرية ثم في السوق الأسبوعي.
تختزن الأمثال الشعبية خلاصات المجتمع بخصوص مواضيع كثيرة ومن بينها “الزمان”، وهو يرد بصيغة مُعبِّرة: “الزْمان”، وهي الصيغة التي تُشخِّص الوقت وتُعطيه وجها وكيانا ماديا وملموسا. فالزمان متقلب: ” دْوَامْ الْحَالْ مَنَ الْمُحَالْ”، وأثر الزمن على الناس والأشياء ظاهر لا يمكن إخفاؤه: “وْجَهْ الشَّارْفَة مَا يَخْفَى، وَلَوْ تْحُكُّ بِالْحَلْفَة”، وفساد المعيشة وعدم الاهتمام بالنفس ومتطلباتها يُؤرَّخُ له أحيانا بالانشغال بمتطلبات الأبناء: “مَنْ نْهَارْ وْلَدْتْ وْلَادِي مَا شْرَبْتْ مَايَ صَافِي مَا كَلْتْ عَلْفِي وَافِي” مع ملاحظة أن المتكلم يتقمص كيان دابة من الدواب، أما خلاصة العامة فيما يتعلق بتقلبات الزمن فقد صاغوها قديما بقولهم: ” حَقْ مَنْ سْمَنْ حَتَى يَهْزَلْ وَحَقْ مَنْ رْكَبْ حْتَى يَنْزَلْ”.
السنة الفلاحية:
مازالت بعض المعارف المرتبطة بالسنة الفلاحية مبثوثة هنا وهناك، وهي معارف ترتبط بالتحولات المُناخية والطقسية في بلاد دكالة وما لها من تأثير على مختلف الأنشطة المعيشية وفي مقدمتها الفلاحة عموما والزراعة على وجه الخصوص.
تنتظم المعارف التقليدية بخصوص السنة الفلاحية في تقويم يجمع بين السنة الشمسية والقمرية في جدول واحد. وهو تقويم ينهل أصوله من معارف فلكية تعود إلى حضارات شرقية قديمة (بابلية ومصرية …). وأساس السنة الفلاحية دورة القمر حول الشمس بما فيها طوافه حول الأرض، حيث قام الفلكيون منذ زمن طويل بتقسيم المسافة التي يقطعها القمر إلى 28 مساحة وقتية. كما أن للشمس في هذا التقويم عدد معروف من المنازل تتفاعل بدورها مع 28 تشكيلة نجمية تتوزع بدورها على الفصول الأربعة. فلكل مجموعة نجمية أحوال جوية ومناخية تظهر في الطبيعة متى حلّ في تلك المجموعة الشمس أو القمر.
ومنذ القديم أدرك الفلكيون وجود ترابط بين المنازل والأبراج وما توفره الطبيعة من فُرَص معيشية مثل غرس الأشجار، وحصاد المحاصيل، والخروج للصيد والقنص…هذه المعلومات صَرَّفتها الحكمة الشعبية في أمثال يَسْهُل حفظُها، فتساعد الفردَ والمجتمع على تنظيم الوقت وحسن تدبيره، وترشد كل واحد إلى كيفية استغلال كل زمن فيما يليق له: “إيلا صَبَّتْ الشْتَا فِي السْمَايْمْ بِيعْ الزْرَعْ و شْرِي لَبْهَايْمْ”، و” اللِّي بْغَا قمح العَوْلة يْحَرْثُ في الشَّوْلَة”، و” فَاتَكْ الغَرْسْ قْبَلْ مارَسْ و النْقَا قْبَلْ أبْريلْ”.
يهمنا هنا التنبيه إلى هذا الترابط بين معرفةٍ عالِمة (علم الفلك) من جهة، واللسان الشعبي العامي من جهة أخرى، وهي عملية تفكيك وتبسيط فعلية للمعارف وتحويلها إلى وسائل حياتية متاحة للمجتمع. مع التنبيه إلى أن مبادئ علم الفلك من العلوم القديمة التي ما كان لطالب العلوم الدينية أن يصل إليه إلا بعد عبور محطات غير قليلة. كما أن عملية تفكيك العارف العالِمة و”تذويبها” في المعيش الشعبي، وجعلها تجري مجرى الأمثال قد استغرقت فترات طويلة من الزمن.
نورد هنا جدولا فلاحيا خاصا بالشهور والمنازل حصل عليه الباحث إدريس المرابط من فقيه فلاح بدكالة، ونشره في كتابه “الفكر المغربي في الأمثال الشعبية”:
يناير 4 يدب
سعد ابلع يناير 17 يزس
سعد السعود يناير 30 يلخ
سعد لخيبة مارس 10 ميت
بطن الحوت
مارس 23 مكجن
النطح مارس 5 أهبلا
بطين أبريل 18 أيحث
الثريا ماي 10 مأد
الدبران
ماي 14 مبده
هنعة ماي 27 مكزة
هقعة يونيو 9 يطمد
الدراع يونيو 22 يكبن
العنصرة
يوليوز 5 يهط
الطرف يوليوز 18 يحجل
الجبهة غشت 14 غيدص
الصرفة غشت 17 غكزع
العذراء
غشت 1 فأخ
الخرشان شتنبر 9 شطس
السماك شتنبر 22 شكبغ
الغفار أكتوبر 5 كهز
الزنان
أكتوبر 18 كيحل
الإكليل أكتوبر 30 كلفل
القلب نونبر 13 نجيش
الشولة نونبر 26 نكون
النعايم
دجنبر 9 دطب
البلدة دجنبر 22 دكبد
الدابح
تجدر الإشارة هنا إلى أن التراث الشعبي وَثّقَ خصوصية كل منزلة وشهر في عدد من الأمثال، ومن ذلك قولهم: “سَعدْ ابْلَع كيجمد الما فْراسْ لقرَع” وقولهم: “مارس الضحّاكْ مَرّة برقة ومرة شرقة” و”مارس وهْوالو وابريلْ وفَوَالو”، وقولهم: “فِي بَطْنْ الحُوتْ المَا وْلاَّ نْمُوتْ، الدْرَة وَلَّا نْفُوتْ”.
كانت الناس لا تطمئن إلا إذا كان الصيف صيفا والشتاء شتاء، فلكل زمن فاكهة وخضرة ونبتة، لكل أوان كلام، و”لكل وقت أذان”. أما ما يطرأ من أحداث خارج أزمنتها المعتادة فمما يصدق عنه قولهم: “اللَّه يْنَجِّكْ مَنْ جْرَادْ مَارَسْ وَرْعَدْ بْرِيلْ”.
*رضوان خديد
باحث في الأنثروبولوجيا وعلم المتاحف
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=45074