د. محمد معروف
لا تتمتع النساء المغربيات بشكل عام بالسلطة الثقافية، ولا يتم الاستثمار في الرأسمال الجندري الأنثوي مثل ما يحدث مع صنف الذكور، إذ تلصق بهن مواصفات نمطية متجذرة في المتخيل الشعبي؛ منها أنهن أقل شأنا من الرجال، مزاجيات و متقلبات الطبع، و غير جديرات بالثقة. و تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن النساء لا يشكلن طبقة متجانسة، حيث توجد نساء ينتمين إلى الطبقة البرجوازية والطبقة الوسطى المتعلمة، يتمتعن بدرجة كبيرة من الحرية من خلال حضورهن القوي في المجال العام، ولا يولين أهمية كبيرة لطقوس تحدي السلطة وقلب أدوارها قصد التفريغ النفسي وتجديد الثقة فيها، لكن الكثير من النساء الرابضات في أسفل الهرم الاجتماعي، ينحدرن من أصول بدوية، ويعانين من الأمية ، إذ لا يتوفرن على حياة اجتماعية مستقلة، حيث يتم أسرهن في المجال العائلي، باعتبارهن جزءا من الملكية الذكورية الخاصة، وذلك بالرغم من الخلفية الاجتماعية للتغيير، والأوضاع الاقتصادية السائرة في طريق الانفتاح بفضل التعليم الجماهيري، والدعوة إلى التحديث، و الاستثمار المتصاعد في القوة العاملة النسائية.
تجد النساء الأقل حظا أنفسهن محتجزات في أشكال طقوسية للتعبير عن رفضهن لواقع الهيمنة الذكورية، حيث أن المجتمع التقليدي لا يتيح لهن أي فرص للتعبير عن ذواتهن إلا في إطار احتفالات طقوسية، و لا يزال المجتمع منغمسا في أحكام نموذجية مسبقة على المرأة، واصفا إياها بأنها الفتنة بعينها، مؤمنا بأن النساء مرتع خصب لتوليد الإغواء والفتن، وشتى أنواع الفوضى الاجتماعية، إذا تركن بدون رقابة ذكورية. وتثير الرغبة الذكورية في السيطرة على الحياة الجنسية للأنثى رهابا لدى الرجال، إذ يتم ترويض الذات الاجتماعية الأنثوية عبر تربية موجهة من لدن إيديولوجية ذكورية، ترتكز على أسس أخلاقية دينية، يمكن اختزالها في ميثاق الشرف والعار . إن الملامح الرئيسية لهذا النظام الأخلاقي، كما تجادل في ذلك أمال رسام (1980)، تنبني على “صيانة الأنثى لعذريتها قبل الزواج، والإخلاص الصارم في العلاقة بعده “. وحينما تترك المرأة المجال الأسري الداخلي الذي يقع تحت نطاق سلطة الرجل للذهاب إلى المدرسة أو العمل، فإنها تظل في الحقيقة خاضعة لهذه السلطة، بالرغم من خروجها إلى فضاء جغرافي مغاير، إذ تعتمد على حماية السلطة الذكورية في إظهار سلوكيات الذات الاجتماعية الأنثوية.
هناك ضمانات وقائية عادة ما يجب على المرأة التقيد بها إذا أرادت أن ينظر إليها “كملكية ذكورية محترمة”، فارتداء اللباس المحتشم والحجاب والبركة وغيرها من الألبسة التي لا تثير الفتنة أو الشهوة الذكورية، يمنح صورة ذاتية أنثوية إيجابية، تصنف الأنثى باعتبارها عضوا اجتماعيا صالحا ومحترما، كما يشكل ضمانا للأشقاء، وسلالة الإخوة الذكور أو الزوج، وصمام أمان يحفظ كرامة العائلة وشرفها. و تبين هذه الضمانات أن لا وجود للذات الأنثوية دون نظرة الذكور إليها، إذ أن استيعاب القيم الأخلاقية واستبطانها من لدن النساء لا يبدو في غاية الأهمية، بالمقارنة مع إظهار عوازل ورموز تقليدية خارجية بمرجعية أخلاقية في الفضاء العام.
إن الرهاب البطريركي في واقع الأمر قد انشأ جسدا ثقافيا بسمات جندرية أنثوية، معتبرا إياها مصدرا للخطر على التماسك الاجتماعي، إذا ما تركت دون قيود من قبل السلطة الثقافية الذكورية . لقد وثق رشيق (1990) مثالا حيا لهذه النمطية التي يجب علينا مواصلة مناقشة تأثيرها في الخيال الشعبي المحلي، و في تطوير المواقف المتحيزة نحو التبعية والخضوع الأنثوي. يقول احد المبحوثين، و يدعى ابن زيدان أن الذبح باليد اليسرى يحوي إيماءات تنذر بسوء الطالع في التقاليد الأمازيغية، وإثر محاولته إقناع رشيق بحجته، استند ابن زيدان إلى مثال خلق الإناث، فقال ” خلقت حواء من الضلع الأيسر لآدم”. وهكذا، أنهى حجاجه معتقدا أن هذا دليل كاف يبين أن حياة النساء مرتبطة بالمكائد و المخططات الشريرة. وفي رأيه أيضا، فإن هذا ما يفسر استعمال النساء لليد اليسرى في نحر القرابين أثناء طقس إسگار ، وهو طقس من طقوس الأطلس الكبير التي ترتكز على الذبيحة وتقديم القرابين لطرد الجن وقوى الشر. إن تطبيق عروض إسگار يتبع نظاما صارما، إذ يمنع كليا استعمال الملح في الطعام و الدم، كما يمنع الكلام، و يحظر استخدام اليد اليمنى في أداء المهام والطقوس. و هناك اعتقاد سائد، مفاده أن انخراط النساء في طقوس إسگار يبرهن على تحالفهن مع القوى الشيطانية، و إتقانهن لمهارات التنجيم والسحر.
ويجوز تمديد الاستشهاد الذي دلل به ابن زيدان إلى القول المغربي المأثور العريق والمتأصل في المخيال الثقافي الشعبي، و الذي يمكن اقتضابه في الرأي القائل بأن “المرأة ضلع اعوج” (ضلعة عوجة)، و يتصور الكثير من الناس أن الجدة الأولى السلف، أمنا حواء، تسببت في طرد آدم من الجنة، بتحريضها له على الأكل من شجرة المعرفة، و لقطع الطريق على المشككين في كيد النساء، يعبر بعض الذكور عن تقديرهم المذل للنساء من خلال استشهادهم بالحديث النبوي: “النساء ناقصات عقل ودين”، دون فهم السياق الذي ورد فيه قول الرسول. ولقد جمع ويستمارك (1930) في كتابه “الذكاء والحكمة ” الكثير من الأمثال من المشهد الثقافي المغربي، و التي تمثل المرأة في صورة نمطية، بوصفها ساحرة وقوة شيطانية و متقلبة الأهواء، أضف إلى هذا شعر سيدي عبد الرحمن المجذوب الذي يعتبر خزانا ثقافيا يمتح منه الفولكلور المغربي حتى الوقت الحاضر، إذ عمل هذا الشعر على تشويه سمعة المرأة ومكانتها، كما قام بتسويق نظرة دونية لها في مغرب القرن السادس عشر، ونورد بعض الأبيات للمجذوب على سبيل المثال، علاوة على الأبيات المألوفة لدى المغاربة: “القوبع طارت وتعلات نزلات على عود راشي/ نسا گاع قحبات غير للي ماقدرات على شي” (للمراجعة الشاملة لهذا الموضوع، انظر الديالمي”المرأة والجنس في المغرب 1985 “)
و نستدل بمثال آخر من الحركة الصوفية الابتداعية الهرطقية التي ظهرت في القرن السادس عشر، و التي اتخذت العكاز شعارا لها. فحملت اسمه بعد ذلك، إذ لقبت بالعكازية أو العكاكزة. و قد حفر أحد زعمائها الشيخ عبد الله الخياط بعكازه في الأرض في تساوت بمنطقة تادلة، فتدفقت عين ماء هناك. وتوجد عين أخرى في منطقة زرهون تنسب إلى بركاته ، إذ تسمى بعين العكاز )نجمي 2000 ص (315.
تتجلى قوة هذه الحركة الصوفية في ميولاتها المعارضة، التخريبية الهدامة التي استمرت لأزيد من أربعة قرون، إذ دعت أتباعها إلى طقوس جنسية متحررة، تصور المرأة بوصفها ملكية ذكورية على الشياع، ويجب التناوب على حرثها في إطار ما يعرف عند العامة” بالتويزة”، و هو نكاح تضامني بين الأتباع، فرفع العكاكزة الشعار التالي: “إن المرأة كالسجادة، صل وأعط لأخيك لكي يصلي”، و لإبادة الإغواء والاشتهاء والإعجاب بالجسد الأنثوي لدى الوافد الجديد على الجماعة، يطلب منه جلب زوجته، ثم يتمدد فوق الأرض، وتتمدد زوجته فوق جسده، وحينها يباشرها شيخ الطائفة أمام الملأ، ويستأنف عملية الجماع باقي الأتباع واحدا تلو الآخر، كل حسب رتبته الاجتماعية في المجموعة الصوفية . لقد ظلت العكاكزة حركة صوفية قوية و هدامة معروفة في المغرب لمدة أربعة قرون، فتواجدت في مناطق مختلفة من وجدة إلى الصحراء (انظر نجمي (2000
و ضمن الميثولوجيا الأمازيغية، يسعى رهاب أو فوبيا الجنس عند الذكور إلى وضع قيود أسطورية على الحياة الجنسية للمرأة، حتى بعد وفاة زوجها، و في هذا الصدد، تزخر الأساطير بحكايات كثيرة عن أرامل مسخن إلى جنيات بحجم إناث البغال، بسبب عدم احترامهن لفترة عدتهن. و لنأخذ على سبيل المثال أسطورة أنثى البغل التي تسكن المقابر) بغلة القبور) ، فهي صورة نمطية لأرملة سحرت بعد موتها إلى أنثى البغل، لأنها لم تراع فترة الحداد على زوجها المتوفى، و تسمى فترة الحداد هاته التي تمتد على مدى أربعة أشهر وعشرة أيام “بحق الله”. ووفقا للاعتقاد الأمازيغي، فالأرملة التي تسقط في عشق رجل آخر، أو تمارس الجنس معه خلال فترة العدة، قد تتحول خلال وفاتها إلى “بغلة القبور”، وهي كائنة جنية شريرة منفكة السلاسل و الأصفاد تجول المقابر في كل ليلة، وتلتهم المارة في طريقها قبل طمر هياكلهم العظمية، هكذا تجسد هذه الحكاية الأسطورية بالواضح الرهاب الذكوري من”شبقية” أو جنسانية المرأة، إذ تهدف إلى تطويق التهديد الجنسي الذي تشكله الأنثى بكيانها الجسدي، و إلى السيطرة الرمزية على الجنسوية النسوية، عبر إعادة إنتاج التزام النساء بالقوانين والأعراف المنظمة لعقد الزواج، وعادة ما تتطبع النساء على تنشئة ذكورية تبخس جنسويتهن وتنكرها عليهن، إذ يمتثلن للتمثل الثقافي المهيمن الذي يندرج في إطار حماية النسب الذكوري، وسلالة الدم الذكورية، خصوصا في حالة الحمل المحتمل للزوجة من زوجها قبل وفاته.
ويتم تشجيع الأرامل عموما على التأقلم مع وضعهن الاجتماعي الجديد، إذ يحفزهن المجتمع على الصبر والثبات دون التفكير في الارتباط برجل آخر، و يشجعهن على تحمل حضانة الأطفال ومكابدة مشاقها، و في هذا الصدد، يمكن التقاط تعبيرات من لغة التعزية تنص على ما يلي: “صبري على ويلادتك” (تحلي بالصبر، وكافحي من اجل حضانة أطفالك)، لكن عندما يفقد الرجل زوجته، لا يواجه أي خطر أسطوري، بل على العكس، قد تسمع بدلا من ذلك تعابير متعاطفة مثل: “الله يجدد فراشك”) نسأل الله أن يجدد سريرك، وأن يرزقك زوجة جديدة!)، هذا دعاء يعبر عن رغبة مستقاة من الهيمنة الذكورية التي تلح على أن الزوج “المكلوم الحزين” لا بد أن يعثر على زوجة بديلة.
وعندما تقف النساء وجها لوجه أمام هذا التحيز الثقافي ضد الموارد الجنسانية الأنثوية، خصوصا في مستوى أسفل الهرم الاجتماعي، تناور اقلهن حظوة، وتخوض معركة تحد طقوسي لسلطة الرجل باستخدام أي رأسمال متاح لهن سواء كان رمزيا، أم تشريفيا، أم ثقافيا؛ مثل مهارات تربية الأطفال، و مهارات الطبخ و التنظيف، و مهارات إعداد السحر والعلاج التقليدي، وذلك للتأثير في أزواجهن، و الانفراد بالسلطة العائلية المنزلية. و لا تزال معظم النساء الرابضات في أسفل الهرم الاجتماعي يسعين إلى التحرر عبر نماذج طقوسية، يتم تنفيذها من خلال قنوات مقننة اجتماعيا، مثل رقصات الحضرة، و طرد الجن، وزيارة الأولياء، و مراسم الزواج، والوحم، وطقوس سحرية أخرى تعقد النساء من خلالها صفقة قصيرة الأمد، قصد السيطرة على المصير، أو كسب نوع من السلطة المنتزعة المهددة بالزوال في حال اعتراض الزوج .
و خلال هذه المنافذ الطقوسية، يتم تحدي السلطة الثقافية للذكور في لحظة بهيجة، تثبت من خلالها الذات الأنثوية وجودها لمدة قصيرة، تسمح بعدها للسلطة الثقافية الذكورية بتجديد نير هيمنتها عليها في الظروف الاجتماعية العادية . إنها حيلة السلطة الاجتماعية الذكورية التي تخدم مصالح الثقافة الأبيسية، وتفسح المجال للمواجهة النسوية المؤقتة، إذ تسمح الهيمنة الذكورية بالتحدي النسائي عبر القنوات المرخصة اجتماعيا، على شكل طقوس ومواسم مقننة. وهذه كلها ميكانيزمات تستخدمها السلطة، بوصفها صمام أمان لإعادة إنتاج الوضع القائم، وتجديد النظام البطريركي الذي لا تستطيع المرأة أن تغيره في الظروف الاجتماعية العادية، وبعبارة أخرى، تدور المقاومة الثقافية النسائية في دوامة من العلاقات السلطوية الثابتة، تديم الحصار المضروب عليهن من قبل المؤسسة الأبيسية . إن دور المقاومة الشكلية التي تقوم بها المرأة في إطار الطقوس التحررية يصطدم بالدروع الهيكلية لثقافة الهيمنة وسياستها التي تكرسها المؤسسة الذكورية، فتنكمش الذات الأنثوية وتتقوقع في كيان مستعد للخضوع والتبعية للهيمنة الذكورية.
د.محمد معروف، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=17205