ازمور انفو24إنجاز: الدكتور عبد الفتاح الفاقيد.
(ناقد مغربي)
1 ـ إضاءة أولية:
نسعى في هذا المقال إلى البحث في قضية ” الفرن التقليدي ” باعتباره إرثا حضاريا وتاريخيا مشتركا بين مختلف الحضارات الإنسانية، ويدخل استعمال الفرن ضمن المحددات الدالة على انتقال الإنسان من وضعية الطبيعة إلى وضعية الثقافة، وقد دلت الحفريات الأركيولوجية على وجود العديد من الحفر هي آثار أفران تقليدية تم استعمالها عند الإغريق والفراعنة و في الهند أيضا، أبحاث تجعلنا نعتقد جازمين أن تاريخ الأفران هو نفسه تاريخ اكتشاف النار التي تحولت إلى عنصر مقدس داخل العديد من المعتقدات الدينية، سماوية كانت أو وضعية، وأضحت موضوعا للتمثل البشري وإنتاج بعض التصورات منها التطهير (الكاتارسيس)؛ العلاج؛ الدفء؛ التعقيم … تصورات تحولت إلى بنيات لاشعورية تتحكم في علاقة الإنسان بالنار عامة وبالفرن خاصة.
2 ـ تاريخ الفرن:
يحتل “الفرن” في حياة الإنسان موقعا استراتيجيا، فهو رمز ثقافي وحضاري جعل الإنسان دائم التفكير في تطوير وسائطه المعيشية لتحقيق الاختلاف عن الحيوان، الأمر الذي تحقق له عبر دفن الطعام تحت الأرض وإضرام النار فوقه. بعدها اتخذ الفرن شكل حفر لطهي الأطعمة بأعلى فوهاتها، وأخيرا استطاع البشر استغلال بعض عناصر الطبيعة، منها الطين والتراب والماء والملح، لصناعية غرف صغيرة تستعمل كفرن، مازالت أشكاله حاضرة في البوادي والقرى المغربية. وأخيرا تم التفكير في توسيع تلك الغرف ليستقر الفرن في شكله ومعماريته على الفرن التقليدي الذي تجاوزت وظيفته حدود الاستعمال الذاتي ليتحول إلى فضاء خدماتي واقتصادي.هكذا تزايد اهتمام المغاربة بتشييد الأفران في كل المدن وداخل كل الأحياء والأزقة والدروب، ويذكر السبتي أنه كان بمدينة سبتة وحدها 360 فرنا (1)، ناهيك عن أفران مراكش وفاس وطنجة ومكناس وآزمور أيضا.
3 ـ أفران مدينة آزمور:
يتميز الفرن الآزموري بهندسته الشبيهة بالحمَّام، إذ يأخذ السقف شكل قبة، هندسة تستمد حضورها من ألأبعاد الوظيفية للفرن فهو مصدر الحرارة والدفء، وغالبا ما يتألف من حجرة أو حجرتين على الأكثر، وتتوزع الحجرة بين قسمين تفصل بينهما حفرة مخصصة ” للطّرّاح” (2). القسم الأول: يكون عبارة عن قاعة لاستقبال وتوزيع الطلبات وهي في الغالب ” وصْلاتْ الخبز” أو “طاوات الحلوى” أو دقيق أو طاجين … ويتم تأثيث هذا القسم بالعديد من الرفوف لتنظيم ورصف الطلبات.
أما القسم الثاني: يسمى “بيت النار” وهي عبارة عن كوة كبيرة يتم تشييدها بالطوب والطين، وتفرش أرضيتها بالملح الصخري ” الملحة الحية”، ويكون بابها حديديا. أما الأدوات المستعملة فجميعها من الخشب، منها: “المطرح”؛ و”القلاب” و”الكَنّاسْ ” الذي يستعمل لتنظيف “بيت النار”. خارج الفرن توجد دائما حجرة إضافية يتم تخصيصها لتخزين الحطب وتجميعه.
قديما، كانت أجرة صاحب الفرن عينية لا نقدية، إذ يكون أجره عبارة عن قطعة خبز تسمى “الكسرة”، أو بعض الحلوى ويمنع عليه الاقتراب من الطاجين كي لا يبعثر نظامه أو يعبث بشكله. بعدها أضحت الأجرة نقدا: قرشا أو ريالا حسب نوعية الزبون ونوعية بضاعته.
من أشهر الأفران بمدينة آزمور نذكر: فرن المعلم الجيلالبي؛ فرن الصونو؛ فرن الشتوكي؛ فرن بوسحور؛ فرن دادة؛ فرن المعيزي؛ فرن عويطة…. وغيرها كثير.
4 ـ وظائف الفرن:
تتعدد وظائف الفرن وتختلف باختلاف الفصول والمناسبات، فالوظيفة اليومية والرسمية للفرن هي طهي الخبز، أضف إليها ما دأبت عليه ساكنة آزمور من إعداد وجبات السمك في شكل “طاجين”، خاصة “طاجين الشابل”، الذي لم تكن تكتمل لذة أكله إلا بإعداده داخل الفرن التقليدي، والمشهور عند الأسر الأزمورية ذهن “الطواجن” الجديدة وقبل استعمالها بالزيت أو الشحم لتبيت ليلة كاملة داخل بيت النار.
وتنشط حركة الأفران خلال المواسم والأعياد، إذ يستقبل الحلويات بجميع أشكالها، ويتخصص أياما قبل شهر رمضان في تحميص الدقيق والمواد التي تدخل في إعداد “سلّوْ “. مناسبات كانت تفرض على صاحب الفرن اليقظة والانتباه حتى لا تعبث الأيدي بمحتويات ” اللاّطات” (3). ويمنع على الجميع تجاوز عتبة باب الفرن الذي يتحول إلى حلبة حقيقية يكثر فيها الصخب والصياح والسباب.
تعتبر “الطنجية” وجبة أثيرة لاستقبال عينة محظوظة من الضيوف، أو للقيام ” بالنزاهة” (4). وتتطلب هذه الوجبة مهارات خاصة، لأن عملية طهيها تفرض لفها وسط ثوب خشن ثم دفنها تحت الرماد، مع توقع زمن نضجها دون فتح فوهتها، وقد كانت الأسر الميسورة وأعيان المدينة تتنافس على إظهار ثرائها، لذا كانت أطباق “المشوي ” داخل الأفران التقليدية علامة دالة على بالغ الكرم والغنى.
لا يمكن اعتبار الوظائف السابقة شكلا حصريا لخدمات الفران، بل يعتبر مصدرا لتزويد الأسواق والمدينة وضواحيها بالخبز. هكذا يتحول فضاء الفرن ليلا إلى خلية نشيطة للعجين وإعداد الخبز، قصد توزيعه في الساعات الأولى من الصباح.
5 ـ الفرن والرمزية الثقافية:
شكل حضور الفرن داخل الثقافة الآزمورية خاصة حضورا متميزا وذلك على المستويين: التصوري والتداولي، إذ فرضت أهمية الفرن اعتماده علامة للتوجيه(قرب الفرن..؛ يمين الفرن…)، وأحيانا تنسب إليه الحومة أو الدرب: ” درب الفران ” مثلا.
يحمل الفرن علامة إيجابية في المخيال الآزموري، إذ يرمز إلى الحركية والنشاط والاجتهاد والقدرة على تحمل المسؤولية على أحسن وجه، وفي الأمثال المتداولة محليا ما يؤكد ذلك: ” فران وقاد بحومة “، ” فران وأجرك على الله “. وقد كان ” الظّرّاح ” رمزا لسنمار الذي لا يلقى إلا سوء الجزاء، عن ذلك يقول المثل: ( وجهه للنار وظهره للعار).
في مقابل تلك العلامة الإيجابية، كانت شخصية ” الطّرّاح ” محط سخطالساكنة وقد أبدعت الذاكرة المحلية العديد من العبارات الهجائية في حق تلك الشخصية السيزيفية نورد بعضا منها:” ما يتنقى ما يملاح بحال الطّرّاح “، ” حرق الخبز الله يحرق ليه الرّمّة ” (5) ” عوّجْ الخبزْ الله يعَوّجْ ليهْ السيفه “.
ورغم تلك النقائص والعبارات الهجائية التي يكيلها الزبناء ” للطّرّاحْ “، إلا أنه كان محط اهتمامه و إحسانهم من خلال ما يتلقاه من إكراميات فكان أحق الناس بالصدقة والزكاة والهدايا في كل مناسبة دينية…
تلك بإيجاز بعض الوظائف التي كان يضطلع بها الفرن التقليدي، انقرض بعضها، وبعضها الآخر على حافة النسيان، نتيجة التحولات الاجتماعية والعمرانية التي غيرت البنية المعمارية من شكلها الأفقي إلى صورتها العمودية الحالية، وفرضت تحول الأفران التقليدية إلى أفران عصرية، ناهيك عن ظهور الأفران المنزلية التي جعلت الأسر تستغني عن فرن الحومة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ محمد بن القاسم الأنصاري السبتي، اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الأخبار، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرباط، ط2، ص39.
2 ـ الطّرّاح: خادم بيت النار. 4 ـ النْزاهة: الفسحة والاستجمام الجماعي في أحضان الطبيعة.
3 ـ اللاطات : عبارة عن ألواح معدنية.
4 ـ النْزاهة: الفسحة والاستجمام الجماعي في أحضان الطبيعة.
5 ـ الرّمّة: الجسد.
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=21676