مع حلول شهر رمضان يتذكر المغاربة النجاح الباهر الذي حققته السلسلة الكوميدية الكوبل السنة الماضية و شكلت بذلك استثناء في انتاج الكوميديا التلفزية. لكن السؤال الذي حاول العديد من المهتمين بهذا الانتاج الاجابة عنه هو لماذا شكلت هذه السلسلة الكوميدية الاستثناء و حظيت بإجماع المغاربة . الاجابة عن هذا السؤال من وجهة نظر تقارب النوع الكوميدي في علاقته بالهوية و الثقافة قد توضح لنا بعض مقاييس النجاح للأعمال الكوميدية في السياق المغربي و تكشف لنا جوانب ظاهرة خفية من هويتنا و ثقافتنا كمغاربة و تساعدنا على تقييم أحسن للبرامج الكوميدية خلال رمضان هذه السنة.
استقراء ما كُتب عن هذه السلسلة الكوميدية مكننا من الحصول على معطيات مهمة قد تشكل مقدمة لتحليلنا لهذا الاستثناء. اتفق أغلب الكتاب على النقط التالية:
1- أن نجاح السلسلة راجع بالأساس إلى جودة الفكرة و السناريو و الاداء.
2- أن موضوع السلسلة يتسم بالواقعية و تصوير صادق لعلاقة غير متكافئة بين زوجين ينتميان لفضاء أصيل في المجتمع المغربي و هو البادية.
3- أن الكوميديا تتسم بالخفة و بالطرف و بالقرب من فهم المشاهدين و بالتالي نجحت في تحقيق متعة مشتركة.
4- أن هذه السلسلة تختلف عن السيتكومات التي تقدم ضحكا مبتذلا منسلخا عن الهوية المغربية.
بالإضافة إلى نقط أخرى كقصر المدة الزمنية و قدرة الممثلين على أداء أدوار جيدة. و قد تم وصف هذه السلسة بنعوت مُميّزة كاعتبارها “انتاجا محترما” تقدم “ضحكا حقيقيا” و تعالج مواضيع “هادفة”، إلى غير ذلك من الاوصاف. كل المقالات التي كُتبت حول موضوع هذه السلسة تلامس الحقيقة من جانب معين و تحاول تفسير هذا الاستثناء كل من زاوية مختلفة. و قد نعتمد على بعضها لإعطاء خلاصات لكن بمقاربة قد تختلف شيئا ما من حيث أن هذا النوع من الكوميديا يتميز بنوع مختلف من آليات الضحك و من حيث هو حفر في الذاكرة و الهوية و الثقافة التي نحيا بها .
من الناحية الثقافية تتميز الكوميديا في هذه السلسلة باستعمالها لموروث ثقافي متجدر في الهوية المغربية و هو الذكاء الشعبي الذي تمثله تاريخيا و اجتماعيا شخصية الشاطر و المحتال أو باللغة العامية الشلاهبي أو لقوالبي و الذي يمثله الرجل على العموم، و الذكاء الفطري الذي يعتبر نقيضا مقاوما للذكاء الاحتيالي و غالبا ما تكون المرأة رمزا لهذا الذكاء. يمثل الزوجان نماذج اجتماعية أصيلة في المجتمع المغربي التقليدي حيث يتمتع الرجل بسلطة يمنحها له النظام الذكوري المهيمن و يمارسها بمبالغة أحيانا تُجاه زوجته التي يعتبرها هذا النظام تابعة للرجل و أقل سلطة و معرفة و يُتوقع منها الصبر و الخضوع للنظام باستبطان قيمه الذكورية. لكن المرأة تستشعر هيمنة الرجل و تقاومها بذكاء فطري متحرر أحيانا من القيم الذكورية المستبطَنة.
يدعم الجانب الفني الاصالة الثقافية لنموذج الزوجين في هذه السلسلة، حيث تم استعمال طرق الفكاهة التي تتماشى مع صورة الرجل المهيمن و الزوجة الخاضعة المقاوِمة. يستعمل الزوج في أغلب الاحيان اللامعقول لإنتاج خطاب فارغ يعبر أكثر عن رغبة في الكلام أكثر من محاولة لإنتاج المعنى، كمحاولته المتكررة للبحث عن سبب ما لإجراء عملية جراحية، أو كمحاولته خلق حوار مع زوجته حول قضايا افتراضية. من الواضح أن هذا النموذج الذكوري هو المستهدَف الاول من النقد، لذلك تم اللجوء لميكانيزمات نقدية تبين تناقض هذا النموذج من حيث السلوك و الخطاب. فكبور زوج بخيل لا يقوم بواجب الانفاق لكنه يمارس كامل سلطته على الزوجة و الابناء، مستغلا تلك السلطة لإرضاء نرجسيته كزوج و أب. في الوقت ذاته يمارس كبور نقدا ذاتيا أحيانا للنموذج الذي يمثله. في المقابل تمثل الشعيبية نموذجا للمرأة التقليدية الخاضعة لسلطة الرجل لكن خضوعها يوازيه نقد و مقاومة للنموذج الذي تخضع له، بحيث أن ذكاءها الفطري يكشف لنا بوسائل كوميدية تناقض الرجل و ميله لاستغلال سلطته.
تماهي المشاهد مع الشخصيتين يمر عبر مستويين: اعتراف المشاهد-الرجل بواقعية التمثل و بالتالي الاعتراف بوجود هذا النوع من التسلط الذكوري، الذي قد يكون المشاهد يمارس بعض مظاهره، يدفعه للضحك لتفريغ الطاقة التي يستعملها لكبت واقع التسلط المسكوت عنه و الذي قد يبرره الرجل أحيانا بدونية المرأة و أهلية الرجل، ثم يلي ذلك خلق مسافة مع هذا النموذج من طرف المشاهد الرجل حيث يمارس بذلك نقذا ذاتيا إراديا لا إحراج فيه. عندما يضحك الرجل من نموذج كبور فإنه يضحك من ذاته أو على الاقل من الثقافة التي يحيا بداخلها. بالنسبة للمشاهدة- المرأة – فإنها تتابع حلقات التسلط الذكوري و ترصد الكذب و التناقض و اللامعقول الذي يسم سلوك كبور و تتماهى في مستوى ثان مع الشعبية في فضحها للسلوك الذكوري المتسلط.
منح هذا التماهي متعة و فرجة للمشاهد لأن الاستقطاب أدخل المشاهد في عمق الموضوع حيث لامس فيه شيئا متجذرا في الهوية و الثقافة و دفعه بلطف الفكاهة إلى مراجعة علاقته بهذه الثقافة المشكلة للهوية سواء بالنقد الذاتي أو بالانتصار للضحية التي هي المرأة. لكن الاستثناء لا يرجع فقط لهذا العمق الثقافي و الذي تمكن معالجته من تحقيق علاج جماعي من آفات الثقافة المهيمنة، بل يمكن كذلك رصد جانب فني آخر مرتبط باللغة وميكانيزمات الضحك. فمن خلال تحليل هذه الآليات نجد غيابا واضحا للهزل الذي يميل أكثر للتحريف و التشويه الظاهري البسيط للأقوال و الاشكال، بل نجد استعمالا مميزا للدعابة و اللعب الذكي بالكلمات و المحاكاة الساخرة و الفكاهة. نذكّر ببعض التعابير الساخرة التي ميزت خطاب الشخصيتين. عندنا ضاقت الشعيبية ذرعا من تصرفات كبور الشلاهبي، ردت على قوله بأنه يجب عليه أن يصلح فمه، بقولها:”هذاك الفم ماخصكش تبدلو، خصك تسدو”. و في محاكاة ساخرة لسلوك القروي أثناء تورطه في دعاوى قضائية، يقول كبور حين مطالبته في محضر رسمي بتعويض عن الجرح الذي تسببت فيه زوجته:” دوركا راني باغي التعويض ديالي وباغي الحقوق ديالي أو باغي بقعة شوكا”.
تم استعمال آليات الضحك باقتصاد و ذكاء و تنوع، الشيء الذي أعطى للسلسلة خفة و طرافة، و نال إعجاب المشاهد لأنه أحس بأن السلسلة تحترم ذكاءه و تخاطب فيه شيئا أصيلا و متجذرا. يعتبر هذا النوع من الكوميديا نوعا استقباليا و ليس استبعاديا بحيث أنه لا يستهدف شخصا لطرده من الجماعة و تحطيمه كنموذج غير مقبول، بل يمارس نقدا ذاتيا للثقافة المغربية بهدف تسليط الضوء على مظاهر التسلط و الانحراف وتجاوزها، و إصلاح ما فسد في هذه الثقافة.
كخلاصة يمكن أن نحدد من خلال هذه المقاربة بعض المقاييس التي يمكن استخدامها لتصنيف و تقييم الاعمال الكوميدية من بينها أن يكون موضوع الكوميديا متجذرا في الثقافة و مؤثرا في الهوية وأكثر قربا من الواقع المعيش، كما يجب أن تكون المواقف الكوميدية مثيرة لعلاقات لها بعد اجتماعي وثقافي، بحيث تشارك بتحليلها لهذه العلاقات في النقاش العام حول المواضيع المثارة. و أخير و ليس آخرا ضرورة احترام ذكاء المشاهد باستعمال سيناريوهات مكتوبة بإبداع و تستعمل مواقف مضحكة و آليات ضحك متعددة، ذكية و خفيفة كالدعابة و الفكاهة و المفارقة و المحاكاة الساخرة و اللعب الذكي بالكلمات.
د. محمد مفضل
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=8773