ازمورانفو24:بقلم احمد امشكح.
حينما كتب لسان الدين ابن الخطيب، ” قلت فآزمور..قال جار وادي وريف”، لم يكن يعتقد ذو الوزارتين، أن هذا الوادي الذي تفخر به أزمور والتي تعتبر هبته، مثلما مصر هبة النيل، أن نهايته ستكون حزينة على نحو يدمي عين الأزموريين الذين لم يتبق لهم من هذا النهر العظيم غير بعض من تاريخه.
فقد اختنق عند مصبه بالمحيط الأطلسي. وهجمت رمال الحوزية على ما تبقى منه. والحصيلة اليوم هي أنه قطع حبل الوصال بينه وبين مياه المحيط الأطلسي بعد أن تحول إلى بركة آسنة تنبعث منها الروائح الكريهة. وهو الذي ظل يصنف كواحد من أكبر الأنهار الذي ظل يقطع مئات الكيلومترات قادما من الأطلس المتوسط وعيونه التي لا تنضب.
=أصل الحكاية
في بداية سنوات التسعينات، دقت أزمور ناقوس الخطر حول الوضع الذي أصبح عليه نهر أم الربيع الذي بدأ يفقد قوته وهو يتجه نحو المصب. لقد هجمت الرمال القادمة من شاطئ الحوزية على مصبه وتسببت في اختناقه. وكان من حصيلة هذا الوضع أن توقف صيد السمك، ولم تعد القوارب التي ظلت تملأ المكان، تجد متنفسا للصيد. وأضحت الجزر الرملية عنوانا جديدا بداخل النهر خصوصا عند حدود سيدي وعدود. لذلك بدأ الحديث عن ضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، خصوصا وأن الأمر يتعلق بنهر عظيم ظل مفخرة للمدينة وللجماعات المجاورة له. وبدلا من البحث عن طرق ناجئعة لإصلاح الوضع، اختارت الجهات المعنية بعض الحلول الترقيعية والتي أجلت المشكل دون أن تجد له حلا جذريا. يشرح أحد المتتبعين لوضعية النهر إن وزارة التجهيز باعتبارها الجهة الوصية على النهر، فضلت أن تعتمد صيغة تنقية مصب النهر من الرمل والحصى.. وهو حل غير مجدي، يضيف مصدرنا. فقد رخصت لإحدى الشركات بجرف الرمال والحصى مقابل استغلالها. وهي صيغة دفعت بالكثيرين إلى وصفها بمقلع رمال من تحت الماء!! لذلك مرت اليوم قرابة عشرين سنة ليعود الوضع إلى ما كان عليه. بل أن يستفحل أكثر حيث صور مصب النهر وهو يتوقف بأمتار عن مياه المحيط الأطلسي تبعث عن الأسى والحزن.
السير إلى حيث مصب النهر لم يعد صعبا. فالجزر الرملية انتشرت بشكل كبير. والمصب يبدو في الأفق وقد تحول رملا. وبعض الآليات التي جيء بها لدر الرماد في العيون متوقفة عن العمل بعد أن انتهت حيلة وزارة التجهيز التي وعدت بإيجاد حل. والحصيلة هي أن أزمور وكل الجماعات الترابية المجاورة لنهر أم الربيع، وهي الحوزية وسيدي علي بن حمدوش وأولاد رحمون، تتابع ما يحدث دون أن تحرك ساكنا أو تقول اللهم أن هذا لمنكر!!
=أزمور ونهر أم الربيع
حينما نحاول فهم الظاهرة التي قادت نهر أم الربيع بكل عظمته إلى الاختناق عن المصب، لا نعثر على تفسير مقنع. فبعض الجهات ترى أن تعدد السدود التي أقيمت على النهر من منبعه، هي التي تسببت في هذا الوضع حيث لم يعد مجرى المياه ينساب بتلك القوة التي عرف بها منذ سنوات. وهي القوة التي كانت تجعل مصب النهر سهل الجريان. أما اليوم فقد اختفى ذلك المجرى المائي القوي مما جعل رمال الحوزية غير قادرة على العودة بنفس القوة التي كانت عليه من قبل.
أما التفسير الثاني للظاهرة، فيتوقف عند غياب حواجز على ضفتي النهر كان يمكن أن تحميه من هجوم رمال الحوزية. وهي تقنية معمول بها في عدد من الأنهار، كما يشرح ذلك أحد الباحثين في العلوم الجيولوجية. لأذلك وجب أن يتم البحث عن حلول مرتبطة بهذه الأسباب. ولعل من أنجعها، كما يضيف هذا الأستاذ الباحث، هو إحداث ميناء ترفيهي عند مصب النهر يمكن أن يعيد للنهر الروح. ويعيد لأزمور بعضا من بريقها.
ولم يعد الأمر سرا أن آزمور، التي تقدمها التقارير الرسمية على أنها مدينة شاطئية، هي بدون بحر ولا هم يحزنون، بعد أن التهمت جماعة قروية مجاورة خيرات هذا البحر.
وليس سرا أيضا أن نهر أم الربيع الذي يصب فيها، والذي اعتبره الأزموريون هبة المدينة، لا يتبع إداريا لها إلا في جزئ صغير.
والحصيلة هي أن المدينة حوصرت وقصت أجنحتها وأضحت تعيش على بعض تاريخها الكبير، بعد أن ضاعت جغرافيتها وضاع حاضرها. لذلك يتداول الأزموريون نكتة مريرة تقول “إن المدينة تجر خلفها تاريخا عريضا وكبيرا، لكنها للأسف أضحت اليوم بدون جغرافية”.
كان لا بد أن يطرح السؤال عن السر في كل هذا التهميش التي تعاني منه المدينة، التي وجدت قبل أن توجد عاصمة الإقليم الجديدة.
اليوم ثمة فوارق بين ما حققت الجديدة من مظاهر للتنمية، وبين ما تعيشه آزمور التي لم تستفيد من موقعها ومن بعض مؤهلاتها السياحية التي قد تجعل منها فضاء اسثثنائيا بتواجد ثلاثة مؤهلات طبيعية لا تتوفر لغيرها. ثمة بحر ونهر وغابة.
وكان لا بد أن يتساءل الأزموريون، وغير الأزموريين، عن السر في كل هذا التهميش الذي يكاد يحول آزمور إلى واحدة من المدن المنبوذة، والتي لا تصلها يد التنمية. ولم يجد الكثيرون من مبرر لهذا الذي يحدث غير الحديث عن أن أسباب كل هذه المعانات، تعود إلى أن قدماء المدينة لم يبايعوا سلاطين الدولة العلوية في بداية عهدهم، وأنهم كانوا لا يزالون يحنون لعهد الدولة البورغواطية، التي كانت آزمور عاصمة لمملكتها.
تحكي كتب التاريخ كيف أن آزمور ظلت عاصمة لمملكة بورغواطة، التي كانت تمتد من سلا إلى ثخوم آسفي. وأن رجلا ادعى النبوة من ساكنة المدينة يقال له صالح. وأنه قال لأتباعه إنه يقترح عليهم إسلاما جديدا أقوى من الإسلام الذي جاء به مسلمو الجزيرة العربية، الذين لم يكن همهم غير ما يكسبونه من فدية وجزية. أما إسلام أهل آزمور ونبيها صالح، فقد كان يعتمد على أداء عشر صلوات نصفها نهارا والنصف الثاني ليلا. كما أن إسلام آزمور هو صوم شهر شعبان، وليس رمضان.
كما أجاز نبي آزمورصالح لأتباعه التزوج بما ملكت الأيمان، وأن العدد غير محدد في أربعة. وهو إسلام ظلت أركانه سائدة في كل مملكة بورغواطة، التي لم تحظ بالكثير من القراءة والتتبع.
هذه هي الخلفية التي جعلت الكثيرين يقولون اليوم إن آزمور عانت وتعاني بسبب تاريخها. ولذلك فإن الكثير من المتتبعين ظلوا يراهنون على أن تتحول إلى عمالة أو إقليم يمكن أن يضم عددا من الجماعات القروية المجاورة كسيدي علي بن حمدوش، والحوزية، وأولاد رحمون، وهشتوكة.
=إكراهات المدينة
تعاني آزمور اليوم من كل الإكراهات. ومن تم فهي بدون ملامح. فلا هي مدينة اختارت المجال الصناعي لتمتص البطالة المتفشية بين ساكنتها ذكورا وإناثا، ولا هي رسمت لنفسها أفقا للسياحة، رغم أنها تتوفر على الكثير من المؤهلات في هذا المجال بتواجد مدينة قديمة تحيط بها الأسوار المطلة على نهر أم الربيع، وبتواجد غابة شاسعة مجاورة للمحيط الأطلسي. والحصيلة هي أنها أضحت، أو هكذا أريد لها، مدينة للأولياء والصالحين. وأصبح كل نشاطها ممركزا حول الظاهرة، مع ما يرتبط بها من ممارسات فيها الدعارة والسحر والشعوذة.
ولا غرابة أن تعرف آزمور اليوم بضريحي مولاي بوشعيب وعائشة البحرية، أكثر مما تعرف بأنها مدينة مصطفى الأزموري المعروف ب “ستيبانيكو” أول مكتشفي أمريكا قبل كريستوف كولومبوس، أو مدينة المفكر عبد الله العروي، الذي وثقها في كل أعماله الأدبية وسماها في روايات الغربة واليتيم وأوراق والفريق ب” الصديقية”، أو بجيل الفنانين التشكيليين الذين نهلوا من ماء نهرها كما هو حال بوشعيب هبولي، وعبد الكريم الأزهر، وعبد الله ديباجي، وبوشعيب خلوق. أو بفن الملحون الذي كانت للمدينة فيه صولات وجولات، حيث ظلت تصنف على أنها إحدى عواصم هذا الفن، الذي يعتبر ديوان المغاربة، كما هو شأن مدن مكناس ومراكش وسلا.
آزمور اليوم هي فقط مدينة مولاي بوشعيب، الذي “يعطي العزارا” للواتي لا ينجبن الذكور. وهي مدينة عائشة البحرية، التي تساعد العوانس على الزواج، ومدينة لالة يطو، التي تساعد النساء على ضبط أزواجهن الخارجين عن الطوع.
غير أنه من سوء حظ هذه المدينة أنها ابتليت، في الكثير من التجارب الانتخابية، بكائنات وضعت هم المدينة ومشاكلها جانبا، وراحت تبحث لنفسها عن تحقيق المصالح الذاتية. والحصيلة اليوم هي أن جماعة حضرية من قيمة وحجم آزمور تحتاج لأكثر من سبعين في المائة من دعم الدولة لتحقق توازنا بين مداخيلها ومصاريفها. وأن كل ما تحققه من مداخيل لا يفوق عائدات بعض الأكرية البسيطة، خصوصا وأن المدينة لم تقو على خلق منطقة صناعية خاصة بها يمكن أن تستقطب جموع الباحثين عن شغل، وتوفر للجماعة الحضرية مداخيل محترمة لتحقيق التنمية المنتظرة. أما هذا النهر العظيم الذي ظلت تفخر به المدينة، فقد تحول إلى بركة آسنة حيث ترمى به مقذوفات مياه الصرف الصحي بدون معالجة ما حوله إلى مرتع للأمراض. هذا على الرغم من أن مطالب الساكنة ظلت لسنوات مع إحداث محطة لمعالجة المياه العادمة قبل رميها في مياه النهر. وهو المشروع الذي وعدت به الوكالة المستقلة للماء والكهرباء، وقال إنها أطلقت بشأنه صفقة الإنجاز بعد أن انتهت الدراسة التقنية للمشروع الذي قد ينهي مع وضع تلوث النهر. لكنه لن يوقف زحف رمال الحوزية التي خنقت المصب.
=اختناق النهر وحلول الوزارة الترقيعية
في أزمور لا حديث منذ أشهر إلا عن وضعية نهر أم الربيع والتي دفعت بعدد من الجمعيات المدنية والسياسية، والتي أسست تنسيقية لهذا الغرض، لتدخل على الخط من خلال تنظيم وقفات احتجاجية ومسيرات وصلت حد مصب النهر للفت الانتباه لما آل إليه أم الربيع. مسيرات ضمت المئات من ساكنة المدينة التي قالت بصوت واحد إن أم الربيع يموت عند مصبه، ولا بد من إنقاذه.
وحينما وصلت الرسالة إلى وزارة التجهيز، المعنية بالموضوع، بادر وزير القطاع إلى التحرك. لكنه تحرك محتشم، كما تصفه ساكنة المدينة. فقد تم إحضار بعض الآليات لجرف الرمال، وقال الوزير إنه خصص قرابة 160 مليون للعملية. لكن حينما ظهرت تلك الآليات عند مصب النهر، ستكون المفاجئة أنها لا تقوى على جرف غير بضعة حبات رمل. في الوقت الذي يحتاج فيه الوضع لتدخل فعال وفق دراسة علمية تنهي المشكل، وتعيد لأم الربيع هيبته وثروته السمكية التي كان يفخر بها وتحديدا سمك الشابل الذي عرفت به أزمور والتي كانت من بين أسباب غزوها من قبل البرتغال الذي مكت بها لسنوات.
= “حوت الشابل ليس له شبيه”
في نفس شهادة لسان الدين ابن الخطيب عن أزمور في مؤلفه ” معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار” يذكر ذو الرئاستين، وهو لقب ثان لابن الخطيب، سمك الشابل ويقول ” ساكنه نبيه، ولباسه يتخذ فيه، وحوت الشابل ليس له شبيه”.
اليوم لم يتبق من هذا الحوت الذي لا شبيه له، غير الذكريات والحكايات القديمة التي يرويها بعض الأزموريين لأحفادهم.
لقد شكل سمك الشابل واحدا من الأهداف التي من أجلها غزت البرتغال مدينة أزمور، خصوصا وأنه من خاصية هذا السمك، أن يولد في النهر ويعيش في البحر قبل أن يعود مرة أخرى إلى مكان ولادته في النهر لوضع بيضه، لذلك اشتهرت به أنهار المغرب التي كانت لها مصبات في البحر وخاصة نهري أي رقراق قرب العاصمة الرباط ونهر أم الربيع في أزمور.
وعلى مصب هذين النهرين ازدهرت لعدة سنوات مصايد هذا النوع من السمك الذي مازال قدماء الصيادين والبحارة وسكان هذه المناطق يتذكرونه بحسرة كبيرة بعد أن اختفى من مياه النهرين بسبب السدود التي بنيت عليهما وحالت دون عودة هذه الأسماء إلى مواطن مبيضها عند منبع النهرين حيث كانت تضع بيضها قبل أن تعود ثانية إلى البحر، ما جعلها تغير مواطنها وتتوجه شمالا .
المثير هو أن هذا السمك هو الوحيد من نوعه الذي كانت مصايده خاضعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وليس لوزارة الصيد البحري. لذلك كان الصيادون يصفونه ب” السمك الشريف” الذي تسلم رخصة صيده من قبل وزارة الأوقاف حيث ينظم ناظر أوقاف المدينة سمسرة عمومية لمصايده ويشترط على من تقف عليه السمسرة أن يقوم بتوزيع صيده الأول على فقراء وعلماء المدينة وأشرافها.
لهذا كبرت أطماع الغزاة الذين كان يستهويهم هذا النوع من السمك بسبب غناه ولذته، كما حصل مع البرتغاليين الذين كانوا يشترون هذا النوع من السمك من ميناء أزمور، يوم كان للمدينة ميناؤها!! والذي يقع على مصب نهر أم الربيع المغربي، قبل أن يقوموا بغزوه واحتلاله في بداية القرن السادس عشر الميلادي. أما لإرساء هدنة بين المغرب والبرتغال آنذاك، فقد تعهد المغاربة بدفع فدية لملك البرتغال عبارة عن عشرة آلاف سمكة من سمك الشابل كانت ترسل إليه سنويا. ولعله أيضا، وبسبب هذا السمك كان الوجود البرتغالي في منطقة أزمور هو الأطول في الثغور المغربية التي احتلوها، حيث مكثوا به نحو 267 سنة، ما بين 1502 إلى 1769 ميلادية.
اليوم لا تجد ساكنة أزمور غير هذا التاريخ لتفخر به بعد أن انتهى نهر أم الربيع إلى الاختناق والموت عند مصبه. ولم تعد لشهادة لسان الدين ابن الخطيب من قيمة أمام حاضر يدمع العين، على الرغم من أنها تستحضرها بين الفينة والأخرى. فهي ما تبقى لها: “قلت فآزمور، قال جار واد وريف، وعروس ربيع وخريف، وذو وضع شريف.. ساكنه نبيه، ولباسه يتخذ فيه، وحوت الشابل ليس له شبيه”.
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=47159