بقلم : يوسف عشي
تلوح في الأفق مؤشرات وملامح لغد قد لا يبدو كما نشتهيه.. ولربما ظن الكثيرون أن أكبر المتفائلين لا يتوقع غدا مشرقا أو بالأحرى على ما يرام.. وتلكم أيها السادة نهاية اللعبة التي لم تبتدئ أصلا.. فالحكاية تسرد فصول تراجيديا سطاتية بطلها الحيوان ووقودها الإنسان.. ولكي لا نطيل في مثل هكذا مقدمات.. ولا نجعل الأمور تبدو ضبابية وجب تحديد لب المقال وإلزامه بالمقام.
فالمقال أيها السادة الكرام، كلام عن الحيوان.. والمقام أيها الفضلاء استهتار بكرامة الإنسان.. ولا أقل من التوضيح بالخبر.. وإن كان كما قيل قديما أن “اللبيب بالإشارة يفهم” وليس أبو علم كأخو جهالة.. ومنبع القول حينما أوردت الصحف المحلية بسطات مؤخرا خبرا عن بغل ترك يحتضر.. وحين مات ترك لينال حظا وافرا من المشاهدين من المارة.. فلربما ارتأى مسؤولونا العظماء أن يتركوا للسيد البغل “فرصة” لينال عطف الناس وترحم المترحمين.. وإلى حين تم رفع جثته، لتترك وراءها شرخا كبيرا في كرامة أهل المدينة.. على اعتبار أن جثة الحيوان كانت مستقرة بجانب أهم سوق بالمدينة حيث الخضراوت واللحوم والأسماك التي تنتقل إلى بيوت المواطنين وتفعل فعلها بصحتهم الجسمية (مواد السوق بتفاوت درجات جودتها) أو النفسية ( المرور على جثة بغل !!) وكأن المرحوم البغل كان يردد عبارة المصريين الشهيرة في أفلامهم : لن تنالوا مشترياتكم إلا على جثتي..
البغل.. هذا الحيوان الأليف.. القوي.. الصبور.. يبدو أن القدر شاء أن ينحث له تاريخا في صفحات عذرية كرامة المواطن السطاتي.. فإذا كان قد حرَّك..(لو حقا فعل ذلك) مشاعر المسؤولين إلى حين الأمر برفع جثته دونما اكتراث إلى جنبات المكان الذي تواجدت به، والذي تبدو جثة البغل هي أنقى جزء فيه.. ليترك المواطن أمام الكميات الكافية من التلوث بجانب المركز التجاري الأكثر رواجا.. حتى تخال نفسك وأنت تمر عبر البوابة الخلفية لسوق “شطيبة” ناحية تجار الدجاج، تخال نفسك قبل ولوجها أنك في مركز لمعالجة المياه العادمة ناهيك عن الأعداد الهائلة من الحشرات الطائرة و التي يبو أنه يتم تدجينها بالمكان..
البغل.. هذا الحيوان المأسوي.. والذي يبدو أنه يقدم حياته قربانا وخدمة لصالح المواطن السطاتي.. والذي يبدو أنه قد ظلم من حيث رمزيته وإلا ربما رفع الحصان المستقر على نصب فاخر بقلب المدينة ووضع محله مجسم لهذا الحيوان العظيم الذي يستبسل في خدمة المواطن السطاتي باذلا أغلى ما يملك.. حياته..
البغل.. هذا الحيوان الذي قدم نفسه كأضحية جديدة بعد العيد الأعظم.. ليدق ناقوس الخطر المنبه إلى مساحة كبيرة من أراضي المدار الحضري والتي تشغلها السكة الحديدية “غير مؤمنَّة”، ولا يفصلها عن المواطنين أي فاصل.. لا أسوار.. ولا حتى أسلاك شائكة.. أو غير شائكة حتى.. فعلى طول المدينة امتد صرح العمران وتجاورت التجزئات.. لكن دون الأخذ في الحسبان من طرف مسؤولي السكك الحديدية ولا مسؤولي البلدية أو العمالة أو الولاية أو أي كان نوع المسؤولين.. لم يتم أخذ سلامة المواطنين بالحسبان.. لتظل مساحات كبيرة ومجاورة للسكان مكشوفة وليتم المرور عبرها.. لكونها أصبحت تتوسط الأحياء.. ربما كي لا تترك بعض سكانها أحياء.. فهل يعقل أن تترك السكة الحديدية دون عزل؟ وهل يعقل أن يتم الترخيص للتجزئات والتعاونيات لتهيئة الأرض وبيعها للمواطنين دونما أخذ بعين الاعتبار مجاورتها للسكة الحديدية؟ أليست سلامة المواطن أهم من أي شيء؟ فلِمَ يتم التفريط بها عبر التهاون في درء المخاطر عنها؟
البغل.. هذا الحيوان الأكثر احتقارا.. والأشد كراهة بين الدواب.. هل بات اليوم المنقذ؟.. هل دفعه لجثتي اثنين من بني جنسه، سيكون كافيا لإزالة الظباب من أمام أعين مسؤولي الصحة والنظافة بهذه المدينة السعيدة؟ وكذا مسؤولي الأمن والسلامة؟ ومسؤولي السكك الحديدية؟ وربما حتى المسؤولين بالعاصمة؟.. فلربما وبخوا من فرط ولو بغير قصد في إعطاء الاهتمام اللازم والسهر الكافي على تدبير شؤون هذه المدينة السعيدة.
البغل.. هل هو حقا من يعتبر بغلا؟.. أم ذاك الذي يراوح نهاره وليله ماشيا وجالسا في بيئة غير نظيفة.. وطرق مهترئة.. ومياه شرب تكاد تقارب في بعض الأحيان المياه العادمة.. وأزقة تعلوها الأتربة.. ومياه أمطار تقض مضجعه ربما في كل ليلة ممطرة؟.. ترى هل البغل هو ذاك المرحوم الذي شطر جسده تحت عجلات القطار وبين قضبان السكة الحديدية.. أم ذاك الذي تهان كرامته.. حين يحشر في حافلة أو حويفلات نقل بالعشرات والمئات كل صباح في طريقه إلى ينبوع العلم والمعرفة بالجامعة؟.. هل البغل هو من ترك لمصيره المعذب بجوار السوق أم ذاك القابع داخله بين ركام الصناديق وفضلات الخضراوات الفاسدة المرمية في جنبات سوق غير مهيكل، حتى تزكم أنوف المقبلين على السوق..
البغل.. ذاك الحيوان.. أم هذا الإنسان المعذب.. الدائم الطعن في كرامته.. ذاك الذي لا يطلب شيئا سوى القيام على أموره بذمة وأمانة.. في مدينة ترصد لها الإعتمادات تلو الإعتمادات.. فلا ترى منها سوى الصباغات على الأرصفة أو في أكثر الحالات تبديل الأعمدة بالأعمدة وتشييد الحدائق.. فلربما المجال الأخضر صار أولوية الأولويات.. في حين تتراجع كرامة المواطن الذي يصرخ ويصرخ صائحا مطالبا بأبسط حقوقه.. الحق في الحياة الكريمة وفقط..
البغل.. عذرا أيها الحيوان العظيم.. فلربما أمضيت حياتك كلها في خدمة الإنسان.. الذي يأبى أخوه الإنسان أن يعترف حتى بإنسانيه.. وداعا أيها البغل العظيم.. نودعك .. آملين أن يرتقي من يعنيه القول، على الأقل، للقدرة على إدراك رسائل تضحيتك.. نقول وداعا.. أو ربما وجب علينا أن ننتظر إلى أن تنقرض جميع بغال المدينة.. فحينها فقط.. ربما لا نحتاج لبعث الرسائل..
نودع البغل.. ونقول للمسؤولين كما دائما.. عبارتنا المواطنة: ” إننا لا نتهم أحدا.. لكن من حقنا مساءلة الجميع” على الأقل كي لا تروح تضحيات البغل سدى..
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=11571