د. عادل محمد عايش الأسطل
خلال الأيام الأولى لاحتلال إسرائيل لقطاع غزة في العام 1967، بعد قيامها بتنفيذ حربٍ شاملة ضد الجيوش العربية، كان من جملة الأوامر العسكرية باتجاه السكان، بأن عليهم تسجيل أسمائهم على بيوتهم، وعناوينهم على محلاّتهم التجارية، وخلال مرور قوّة احتلالية للتحقق من تنفيذ الأمر، وجدت أن أحدهم قام بتسجيل بياناته في لافتة بمسحوق وليس كغيره، بِصبغٍ ثابتٍ، فأخبره أحد الجنود بأن عليه الالتزام بالتسجيل بصبغٍ ثابت، بسبب أن المسحوق سيزول مع نزول الشتاء، ولما سمع الرجل منه ذلك، حتى سأل متعجباً ومستهجناً في ذات الوقت: وهل ستمكثون هنا إلى الشتاء؟ فأجابه الجندي: نعم، وإلى الأبد.
بغض النظر فيما إذا كان اندحار الاحتلال من قطاع غزة، وتهديمه 21 مستوطنة، بناءً على خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي “أريئيل شارون” في العام 2005، هو نتيجة المقاومة وتقليل دفع أثمان أمنيّة (أعلى) للوجود الاستيطاني، أو فيما إذا كان ذلك الاندحار مجرد إعادة انتشار، تفوق حسناتهُ سيئاتهِ وعلى الصعيدين المحلي والدولي- لدى الإسرائيليين على الأقل-، فإننا وقعنا في نفس التساؤل والاستهجان في أعقاب انكشاف النوايا الإسرائيلية الحقيقية، بشأن عدم رغبتها في التقدم نحو عقد اتفاق شامل مع الفلسطينيين، بعد أن كنّا نعتقد بأن تُسفر العملية السياسية التي جرت على مدار أكثر من عقدين من الزمن، عن خلع المستوطنات وإنهاء الاحتلال عمّا قريب. وبدا لنا تماماً أننا كنّا على خطأ. سيما وأن المساعي الإسرائيلية تؤكّد على أن الاستيطان الحقيقي، هو المتواجد في منطقة الضفة الغربية، كونها – كما الزعم- ممالك إسرائيل القديمة، وبسبب أنها لا زالت تحتوي على تُراثات وطنية وآثار يهودية مقدسة، والتي لا يمكن الاستغناء عنها في إطار أيّة حلول محتملة.
لتلك المزاعم، فإن قادة إسرائيل لا يُجيدون الانتباه عند الخوض في أيّة أمور متعلقة بالعمل الاستيطاني في تلك المناطق، ولم تستطع الضغوطات الدولية المخيفة أو الإغراءات الأمريكية اللطيفة، من إعادة حاسة السمع أو جلب الرضا لديهم، كي يتركوا أطماعهم الاحتلالية وأن يتخلّوا عن أحلامهم الاستيطانية. وما الدعوات الإسرائيلية الفائتة والتي كانت تمثّل إحدى الخيارات الإسرائيلية– وبرضىً غربي- لنفض يدها من القضية الفلسطينية، والمتعلقة بتسليم القطاع إلى مصر، وأجزاء من الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية – ضمن شروط معينة- إلاّ لاستبعادها التوصل إلى حلول، ولسهولة إطباق يدي الجيش والدولة على الأجزاء المهمّة دينيّاً وأمنياً بالنسبة لها، ومن ناحيةٍ أخرى لاعتقادها بأن هناك أمالاً مرجوّة وبنسبةٍ عالية، في أن يقبل بها المجتمع الدولي وبضمنه بعض الدول العربية. وكنّا قد رأينا بأم أعيننا، أن القضية الاستيطانية هي التي فجرت مفاوضات التسعة أشهر – المعروفة- من جذورها، بسبب أنها لدى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تُمثّل الحياة والاستمرار.
العواصف التي توالت قبل وفي أثناء تنفيذ خطة “شارون” بالخروج من القطاع، والتي أعقبتها، هي عواصف كاذبة ومُختلقة، فقد كانت لأجل أن يُشاهد المجتمع الدولي، كم يقدّم الإسرائيليون من تنازلات مؤلمة من أجل السلام، ودون أثمان فلسطينية مناسبة، وإن كانت من قِبل يهود يمينيين، هو أن تنفيذ الخطة لم يحِن أوانها بعد، ولاعتقاد مستوطنين آخرين بذهاب (العلاوة الاستيطانية) التي تمتعوا بها ردحاً من الزمن.
بالنظر إلى (خطة الاستقرار)، التي أطلقها “نفتالي بينت” وزير الاقتصاد الإسرائيلي وزعيم حزب البيت اليهودي والمشارك الأبرز في الائتلاف الحكومي، في أعقاب الاتفاق بين حركتي فتح وحماس، بسبب أن إسرائيل لا تنوي التفاوض مع حكومة فلسطينية تشمل حماس، وهي تدعو إلى تدمير إسرائيل، والتي تقضي – الخطة- بضم المناطق المصنّفة (ج) إلى إسرائيل، ومنح الجنسية الإسرائيلية للفلسطينيين المتواجدين عليها، فإن حكومة “نتانياهو” ومن أجل تبنّي هذه الخطة، وتسهيل فرضها على الواقع، فقد أعلنت المضي في بذل مساعيها من أجل تنفيذ مشاريعها الاستيطانية، في أرجاء الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة، وتوضحت بدرجةٍ أكثر، من خلال شروعها في إحياء مشروع “متتياهو دروبلس” الذي شغل منصب رئيس الوكالة الصهيونية العالمية 1979، والداعي إلى تشييد مستوطنات جديدة وتوسيع حدود أخرى، وشرعنة بؤر استيطانية داخل مناطق فلسطينية خطرة، بهدف إيقاف المساعي الفلسطينية المُطالِبة بحق العودة وبالحصول على أجزاء مهمّة في القدس ضمن حدود عام 1967، وبالمقابل ضمان الأمن الكافي لاستمرار الدولة، والعيش الهادئ للإسرائيليين بعمومهم.
وامتداداً لتلك المساعي، فقد كشف وزير الإسكان والتعمير “أوري أريئيل” أن حكومة إسرائيل بصدد تنفيذ مشاريع استيطانية عملاقة على أراضي الضفة الغربية، تهدف إلى زيادة نسبة المستوطنين فيها إلى نسبة 50% بنهاية عام 2019، من أجل توفير 600 ألف مستوطن، بدلاً من 400 ألف و350 ألفاً في مدينة القدس بدلاً من 200 ألف مستوطن كما هو حاصلٌ الآن.
حكومة “نتانياهو” وهي بصدد التوجه إلى انشاء المستوطنات ومضاعفة نسبة المستوطنين على الأراضي الفلسطينية، لن تجد صعوبة كبرى في سبيل ذلك، وسواء من حيث ردّة فعل المجتمع الدولي وبخاصة الولايات المتحدة أو بالنسبة لمصادر التمويل اللازمة، أو بإيجاد الأشخاص اليهود الراغبين في الاستيطان. فبالنسبة لموقف المجتمع الغربي، فهو أضعف من أن يأتي بصدىً ذا شأن، وكنّا اعتدنا مواقف وتجارب كثيرة، لم يقفز بسببها مؤشّر الإيجاب إلى درجة واحدة بعد الصفر، كما أن الولايات المتحدة لا تُخفي عِلمها بكل خطوة في شأن المخططات الاستيطانيّة وحتى اللاحقة منها. وبالنسبة إلى عمليات الإمداد والتمويل، فإن لدى الإسرائيليين مصادر تمويلية مُيسّرة ومتعددة ومضمونة من أن تنضب في يومٍ ما. كما أن من السهل عليهم الحصول على الأشخاص الذين يُسعدهم تقديم القيمة الحقيقية لمفهومات الاستيطان، لا سيما في ضوء قيام الحكومة بتوفير جملة هائلة من الإغراءات والضمانات في ذات الوقت، باعتبارهما تُمثّلان (العلاوة الاستيطانية) الضخمة، التي سيتمتعون بها على مدار حياتهم، ومنها أنهم سيكونون غير مُلزمين بدفع أيّة أثمان في مقابل السكن، والاكتفاء بأن يتواجدون بجلودهم فقط، ومن ثمّ التعهّد بتوفير كافة مستلزماتهم الرفاهية والفائضة عن حاجة الإنسان، ومن ناحيةٍ أخرى منحهم الضمانات الأمنيّة الكافية لضمان تواجدهم على الأرض وإلى ما لا نهاية، وإعطاءهم الوعد بعدم اللجوء إلى اقتلاعهم وإجبارهم على ترك مساكنهم تحت أيّة تطورات قد تظهر مستقبلاً، كما حصل لمستوطني (غوش قطيف) عندما أُرغِموا على ترك بيوتهم وذكرياتهم هناك.
خانيونس/فلسطين
24/5/2014
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=7741