ازمور انفو24 المتابعة:خليد اليوسي
باسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الهادي الأمين وعلى اله وصحبه أجمعين.
السيد عامل اقليم الجديدة؛
السيد رئيس جمعية الصحافة بالجديدة والسادة أعضاء مكتبها؛
السادة المنتخبون؛
السادة رجال السلطات الادارية والأمنية والعسكرية ورؤساء المصالح الاقليمية ؛
السادة قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير؛
السيدات والسادة ممثلو ونشطاء العمل الجمعوي والمجتمع المدني؛
الحضور الكريم.
أود بادئ ذي بدء آن انقل إليكم تحيات وتبريكات السيد الدكتور مصطفى الكتيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير الذي كان بوده الحضور والمشاركة شخصيا في هذه الندوة الفكرية لولا التزامات المهنية في هذا اليوم بالذات والتي حالت دون أن يكون بيننا، على مألوف عادته في مثل هذه المناسبة العلمية والفكرية. وقد كلفني بإلقاء هذه الكلمة باسمه تقديرا وتثمينا منه لهذه المبادرة الجادة والمتميزة التي أقدمت عليها جمعية الصحافة بالجديدة والتي تشكر عليها وتهنأ عليها.
إن الحديث عن منارة سيدي بوافي وميناء الجديدة هو موضوع بالغ الأهمية، متفرد وغير مسبوق اختير لهذه الندوة الفكرية التي تلتئم اليوم وقد أحسنت صنعا جمعية الصحافة بالجديدة باختيارها له. ذلك ان تناول تاريخ هاتين المعلمتين التاريخيتين الخالدتين يعتبر من قبيل انعاش ذاكرة مدينة الجديدة ، الحاضرة العريقة، المتجدرة في عمق التاريخ، والنبش في حفرياتها وسبر أغوار مكنوناتها. وهي لعمري مهمة وطنية جديرة بالتنويه بها باعتبار هذا النوع من المقاربات البحثية والعلمية والفكرية يندرج في سياق الحفاظ على الذاكرة التاريخية المحلية كمكون أساسي من الذاكرة التاريخية الوطنية.
ونحن في المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير نولي كامل العناية لصيانة وإخصاب الذاكرة التاريخية الوطنية والجهوية والمحلية ونضعها في سلم أولويات الدرس التاريخي والمعرفة التاريخية الذي ينبغي استظهارها وإبرازها وترسيخها في أذهان ووجدان الأجيال الجديدة والمتعاقبة واستلهام حمولتها من القيم الوطنية ومواقف المواطنة الايجابية والسلوك القويم لبناء وتقوية الذات المغربية والهوية الوطنية. ولعل من أبرز الأمثلة في هذا الباب فضاء الذاكرة التاريخية بمدينة الجديدة الذي يعد ببنايته معلمة تاريخية تؤرخ لحقبة الوجود الفرنسي بالمدينة خاصة وأنها كانت مقر ” مكتب الشؤون الاهلية ” بِرُو عْرَابْ” وما أدراك ما “برو عراب” . وهو بمحتوياته ومعروضاته وخزانة كتبه يوثق لفترة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، لنكون بهذا قد زاوجنا بين نقيضين، بين الضحية والجلاد في نفس الفضاء كخطوة نحو تجاوز صراع الماضي مقاوم / محتل إلى فهم سليم لمعطياته وأحداثه ووقائعه وبناء فضاء لذاكرة تاريخية نمتلكها ونَتَمثلها.
كما أننا أصدرنا في هذه السنة مؤلفا قيما بعنوان ” التحولات الاقتصادية والاجتماعية بمنطقة دكالة على عهد الحماية الفرنسية 1912-1956 للباحث أنس الصنهاجي، يتناول المظاهر الاقتصادية لمدينة الجديدة في ارتباطها بمنطقة دكالة والمناطق المجاورة وفي علاقتها بالمستعمر الفرنسي وسياساته الاقتصادية والاجتماعية .
لذلك، فإن موضوعا كالذي تتمحور حوله هذه الندوة الفكرية التي أباركها وأكبرها جدير بالبحث والتناول لتقريب مضامينه ومداركه من ساكنة مدينة الجديدة بكل فئاتهم العمرية وشرائحهم الاجتماعية وتعريفهم بالمآثر التاريخية والتراث المحلي لمدينتهم، اعتزازا بانتمائهم إليها وإلى الوطن – المغرب – الذي يزخر بذاكرة تاريخية طافحة بأمجاد وروائع الكفاح الوطني وفي ذات الوقت غنية بمعالم البناء والنماء.
فالتراث الحضاري المعماري، على اختلاف أصنافه وأشكاله وبغض النظر عن الأهداف التي كانت وراء إقامته وتشييده ومن شيَّده، يعتبر أولا وقبل كل شيء تعبيرا عن القدرات التي وصل إليها الإنسان المستقر بذاك المكان للتغلب على بيئته المحيطة، كما أنه مبعث فخر للأمم واعتزازها وشاهدٌ على عراقتها وأصالتها، أي أنه معبّر عن الهوية المحلية و صلة وصل بين الماضي والحاضر. ومنارة سيدي بوافي أو “الفالورة ” وميناء الجديدة محورا هذه الندوة الفكرية يدخلان في حكم هذا الاعتبار.
حول اسم “المنار” هل هو بوافي أم بوعافي أي من التعافي؟ نجد أن ممارسات ومعتقدات شعبية عديدة شائعة في هذا المضمار، من قبيل أن تسلق 248 درجة من البرج يشفي من مرض “العواية” أو السعال الديكي. فالسؤال يبقى مطروحا للتوثيق والتدقيق. كما أن الإسم المتداول حاليا ” الفالورة ” هو ذو أصول إسبانية كما يبدو ، فكيف أطلق هذا الإسم؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا تزال في حاجة إلى توضيح وتمحيص من الباحثين والدارسين .
إن المعالم العمرانية بالنسبة لمدينة ما، هي بمثابة الحمض النووي DNI بالنسبة للأشخاص، فكلما عَدَّدْتَ معالم عمرانية معينة، تكون قد حددت المدينة التي تقصدها أو تعنيها بالحديث. ومن هنا، فالمعالم العمرانية ليست فقط أسواراً متهالكة ودوراً آيلة للسقوط وإنما هي كل بناء يُعَرِّفُ بحقبة من حقب تاريخ المدينة بخاصة و الوطن بوجه عام.
فإذا كان العالم الجيولوجي عند دراسته لتاريخ الأرض، يحتاج إلى مقاطع جيولوجية وخرائط اهتزازية وعينات تكوينية، فإن تاريخ المدينة يقوم على تاريخ الفعل أو التدخل البشري في كل تمظهراته وتجلياته بدون استثناء بل بما فيها كل بناء أو معمار مهما كَبُرَ أو صَغُرَ شأنه.
وتحضرني في هذا الباب أبيات شعرية قيلت في قوم كانوا يهدمون مآثر عمرانية جاء فيها:
أَتُتلفــها شُلّت يمينُك خلِّها * * * لمعتبــــرٍ أو زائرٍ أو مُسائـــــل
منازل قوم حدثَتْنا حديثهم * * * ولم أرَ أحلى من حديث المنازل
وفي موضوع الاهتمام بالمعالم الحضارية والعمرانية وبشتى تبويباتها وتصنيفاتها، فقد سجل الباحثون ملاحظة مفادها أن الاهتمام الأكاديمي بمغرب القرن العشرين تَرَكَّز بشكل كبير إما على تاريخ المقاومة المسلحة المرتبطة بالتصدي لزحف القوات الاستعمارية الآتية لاحتلال المغرب، أو على الحركة الوطنية والتحريرية المغربية التي أعقبتها في إطار التدافع من أجل المطالبة بالاستقلال ، غافلا بدرجات متفاوتة التطرق لتاريخ البناء أو “العمران”.
وتُطرح إشكالية أخرى تطفو على السطح ونحن نتناول هاتين المعلمتين التاريخيتين، أنحن أمام معمار كلونيالي؟ أم موروث وطني؟ إذ ثمة علاقة وطيدة بين العمارة والسلطة الحاكمة، وهي علاقة تاريخية قديمة متجددة تتجسد في العديد من الصور والأشكال، وهي علاقة براغماتية مصلحية تعمل باتجاهين. فالعمارة كَفَنٍّ تطبيقي لازمت بلاط النفوذ وصناع القرار .
فهل يمكننا أن نتحدث عن أن العمارة الكلونيالية في مجملها كانت ذا بعدين؛ الأول منفعي له علاقة بتيسير مصالح الدولة المسيطرة و الثاني ترهيبي يخيف السكان المحليين الذين يَمُرُّون أمامه منكوسي الرؤوس خائفين من سطوة هؤلاء البناة؟ وكأن المستعمر كان يحاول إعادة إنتاج شعور الجنود الفرنسيين، أثناء حملة نابوليون بونابارت على مصر، الذين أبهرتهم الأهرامات بمنظرها وحجمها .فسألوا ما هذا؟ فقال لهم نابليون: هذه هي أهرامات مصر، إحدى عجائب الدنيا السبع، إنها قبور الفراعنة. واستغربوا كيف يمكن لهذه الجبال أن تكون قبورا. ثم صرخ نابليون بعبارته الشهيرة: أيها الجنود من أعالي هذه الأهرامات تنظر إليكم عشرات القرون.. أربعون قرنا من التاريخ تحدق بكم الآن” وكأنه بتصريحه هذا كان يروم تحويل شعور الرهبة المخيمة على الجنود إلى رغبة في التحدي.
ودون أن أدخل في تفاصيل هذه الإشكاليات، أود أبسط في مداخلتي هذه بعض المعطيات عن ميناء الجديدة كمعلمة اقتصادية بُنيت وشُيدت على عهد الحماية الفرنسية، ولاتزال ماثلة أمامنا اليوم، تقوم بدورها في تنشيط المبادلات التجارية .
وإذا أردنا تناول مميزات أو بعبارة أصح ميزات ميناء الجديدة، فيمكن القول بأنه من أكثر الموانئ المغربية سلامة حسب التقنيين والعارفين بأمور الرسو والإبحار، بحيث أن هذا الميناء مؤمن طبيعيا من التيارات البحرية الغربية بواسطة الكتلة الصخرية التي تحميه ، الأمر الذي يسمح له بالبقاء مفتوحا طوال السنة لشحن المراكب وتفريغها، حتى في حالات المد والجزر وفصلي الخريف والشتاء.
واعتبارا لما لميناء الجديدة من خصائص ومقومات اقتصادية وطبيعية، ارتأت السياسة الكولونيالية في أول الأمر أن تعزز من أدواره الحيوية على المستويين الوطني والدولي، وهذا ما دفعها إلى إجراء أول مشاريعها التأهيلية به، والتي بدأت سنة 1913م وانتهت سنة 1924م.
ولتعزيز الدور الاقتصادي لهذا الميناء، أنشأت إدارة الحماية منارتين، الأولى، إسمها منارة سيدي بوافي أو بوعافى (كما في بعض المصادر) التي شيدت سنة 1915م بطول 43 مترا، وقوة كهربائية تصل إلى ألف واط، وقد بنيت هذه المنارة على يد سجناء ألمان خلال الحرب العالمية الأولى بهدف هدي السفن البعيدة عن ميناء الجديدة بحوالي 61 كلم، ويتميز برج المنارة برسم مقطعي دائري، يصغر كلما ارتقينا نحو الأعلى. أما المنارة الثانية التي سميت بمنارة سيدي مصباح، فقد أنشأت على بعد سبعة كلمترات عن مدينة الجديدة، بطول ثلاثة عشر مترا و التي هي الأخرى وجب التنبيه بعدم إغفالها .
وهكذا وبفضل سلسلة من عمليات الإصلاح والتأهيل التي كان ميناء الجديدة ورشا لها، ارتفعت طاقته الاحتوائية إلى 100.000 طن سنويا، بعدما كانت لا تتعدى 30.000 طن، وإمكانية رُسُوِّ السفن الكبيرة بعد الإصلاحات التي قامت بها إدارة الحماية و التي همت عُمق وعَرض المرسى.
وقد ظل ميناء الجديدة يحتل المراتب الأولى على صعيد الموانئ المغربية، من حيث عائدات الدخل من الواردات والصادرات حتى سنة 1923م، وشكلت السنة التي بعدها وهي سنة 1924م، بداية نهاية الازدهار الذي شهده الميناء منذ النصف الثاني من القرن 19م. ويعزى ذلك إلى قرار الادارة الكولونيالية بجعل الدار البيضاء ومينائها، مركزا اقتصاديا يستحوذ على أهم الصفقات التجارية الوطنية والدولية المبرمة، وجعلت من باقي الموانئ محطات ثانوية للاستفادة من ثروات مناطقها من جانب ، وتخفيف الضغط على ميناء البيضاء من جانب آخر.
وبالنظر إلى الموقع الإستراتيجي للميناء ومؤهلاته الطبيعية، فقد فكر الأميرال”إكسلمان” (Exelman) في تحويله إلى ميناء حربي أواخر الحرب العالمية الثانية، بعدما أصبح مردوده التجاري ضعيفا، من جراء الإستراتيجية الكولونيالية التي أرادت أن يظل ميناء ثانويا، ينكب نشاطه على استيراد المواد التموينية وتصدير المنتجات الفلاحية المحلية، شأنه في ذلك شأن ميناء “بور اليوطي” بمدينة القنيطرة.
وإذا أردنا الحديث عن المبادلات التجارية التي شهدها ميناء الجديدة، فقد تحكمت فيها حوالي 25 وكالة تجارية مملوكة لأجانب ويهود، وقد كانت الوكالات الفرنسية هي المسيطرة باعتبار أفرادها يحملون جنسية الدولة الحامية، ويتمتعون بوضع تفضيلي من دون شك.
وقد ارتبطت الصادرات الدكالية في حجمها وقيمتها، بحاجيات الاقتصاد الفرنسي/ الأجنبي ووضعية الأسواق العالمية، واحتفظت فرنسا لنفسها بالقسم الأكبر من الصادرات الدكالية التي كانت تغلب عليها المنتجات الزراعية المستفيدة من الإعفاءات الجمركية، الأمر الذي أنعش مؤسسات التصدير والاستيراد، وعزز من مواقعها بمغرب الحماية. وكان الجزء الأكبر من صادرات دكالة من أصل فلاحي،يتنوع إلى منتجات زراعية من قبيل الشعير، القمح الصلب، الــذرة، الدخن (الزوان)، الفــول، الحمــــص، العـــدس، بــذور الكتــان، الحنـــاء، الكزبــرة، الحلبـــة، الكمــون، اللــــوز، التمر، الجوز، الفاصوليا، الصمغ .
أما المنتوجات الحيوانية ، فكان من أبرزها البيـــض، الصـــوف، الجلــود، الأسماك. زيادة على المنتجات المصنعة والمتمثلة في حبال القفاف، الجلاليب، الحايك، النّعال(البلاغي)، القفاف والحقائب الجلدية، الخـــرق، ونبتة تكاوت.
كما كان ميناء الجديدة بابا للاستيراد، وقد انضبطت نوعية السلع المستوردة وكمياتها حسب خاصية الساكنة الدكالية، وخصوصية المستوطن الأجنبي الذي كان استهلاكه يختلف في كثير من عناصره عن استهلاك المواطن المحلي أو الأهلي ، إذ تحددت عناصره إلى جانب المشروبات الروحية في المواد الترفيهية و الكمالية على وجه الخصوص.
كما اتسمت المواد المستوردة للاستهلاك الأهلي بضعف تنوعها، حيث طغت المواد الغذائية على مجمل واردتها، وكان الشاي والسكر على رأسها، بالإضافة إلى الشمع، الصابون، مواد البناء، ألياف الخشب، الزيت، البنزين، النفط و الأقطان.
الحضور الكريم:
لا شك أن معالم معمارية ومآثر تاريخية أخرى بمدينة الجديدة لازالت تنتظر دورها لينفض عنها الغبار ويرد لها الاعتبار وتسلط على تاريخها أضواء البحث والتنقيب، ولا يسعني في متم كلمتي إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل لكافة الأساتذة الباحثين المساهمين في هذه المناسبة العلمية الجادة و المتميزة، كما أنوه بجهود السادة رئيس وأعضاء “جمعية الصحافة بالجديدة” على ما قدموه ويقدمونه خدمة لتراث مدينة الجديدة. كما أشكر اللجنة التنظيمية والعلمية والجهات الداعمة لهذه الندوة الفكرية المباركة التي نرجو الله أن تتوج بنتائج علمية هامة وتوصيات عملية رصينة تساهم في الكشف عن تراث مدينة الجديدة وتنير للأجيال الجديدة والمتعاقبة الطريق لتحقيق التنمية المنشودة والاعتزاز بهويتنا التاريخية. “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون”.
صدق الله العظيم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=21818