متابعة: ازمورانفو24
I-لاشك في أن الرحلة حركة قديمة في المجتمع العربي، فقد عرف الإنسان العربي منذ القديم الترحل والتنقل من مكان لآخر، لأسباب وغايات كثيرة ومتنوعة، ولعل ارتباط وجوده الطبيعي والجغرافي بنوعية الحياة في الصحراء الممتدة، قد فرض عليه أكثر من غيره، أن يعيش في حركة تنقل وسفر دائمين كما يعكس ذلك أدبه وشعره بصفة خاصة [1].
وبمجيئ الإسلام، تعددت أسباب الرحلة وتنوعت أهدافها، سواء في داخل البلاد الإسلامية، أو إلى خارجها عن طريق الفتوحات في الشرق والغرب والشمال والجنوب. وقد تقوت هذه الأسباب مع مرور الزمن، سواء في مراحل الاستقرار أو في مراحل الإضطرابات والحروب المتواصلة داخليا وخارجيا، بالإضافة إلى أن الإسلام يفرض على أتباعه الرحلة إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، كما يدعو المسلمين، أفرادا وجماعات، إلى الرحلة في طلب العلم والتفقه في الدين، بل إلى الهجرة والضرب في أرض الله الواسعة حين تنعدم أسباب الحياة الكريمة في هذه المنطقة أو تلك، أو من أجل التعرف على سنن الله في الكون والتدبر في عواقب الأمور المرتبطة بالكون والإنسان في مسيرته التارخية السابقة لنزول القرآن الكريم.
وبناء على ما سبق فقد تعددت دواعي الرحلة، وتنوعت اتجاهاتها، وكثرت أسبابها ما بين أسباب اختيارية وأخرى اضطرارية، وهذا ما يفسر أن عناية العرب والمسلمين بأدب الرحلات قد بدأت منذ المراحل المبكرة من تاريخ الحضارة الإسلامية، حيث اقترنت في بدايتها الأولى برحلات العلماء والرواة لجمع الشعر العربي وتقصي أخبار الشعراء… ولجمع الحديث النبوي بعد انتشار المسلمين في مناطق مختلفة من البلاد الإسلامية، وبذلك اتخذت الرحلة من أهم وسائل تحقيق العلوم وتحصيلها ونشرها.
وقد أصبحت تلك الرحلات المختلفة تشكل مصدرا مهما من مصادر التاريخ والحضارة العربيين، وبخاصة بعد إخضاعها لعملية التدوين والكتابة المنظمة، حيث عني العلماء- من مختلف التخصصات العلمية –بتدوين الكثير مما شاهدوه أو سمعوه أو قرأوه في أثناء رحلاتهم فزخرت بذلك مروياتهم ومدوناتهم بكثير من المعطيات والمعلومات والأخبار المتصلة بمختلف مجالات الحياة: في الاجتماع والعمران والسياسة، والاقتصاد والعلوم،والحروب والعادات والتقاليد والأخلاق، والدين والأدب إلخ.
وبفضل عوامل كثيرة يضيق المجال عن التفصيل فيها، اشتهر الأندلسيون والمغاربة [2]بصفة خاصة بهذا الأدب الذي حظي عندهم بعناية خاصة قد تفوق عناية المشارقة به.
ولا يخفى أن العوامل الجغرافية والدينية والعلمية ممثلة في بعد الغرب الإسلامي عن الأماكن المقدسة، ورغبة المغاربة المتواصلة في زيارتها والشوق إليها، بالإضافة إلى أسباب أخرى اختيارية أو اضطرارية، تتعلق بالرحلة لطلب العلم، أو للسياحة، أو بسبب رغبات فردية أو جماعية لمعرفة أحوال المسلمين شرقا وغربا. كل ذلك وغيره، كان وراء الاهتمام المتزايد من لدن المغاربة والأندلسيين بفن الرحلة كتابة وتجربة سلوكية.
وإذا كان المقري، صاحب نفح الطيب (ت 1041 هـ) قد عبر بوضوح عن عجزه عن حصر أهل الارتحال من الأندلسيين بسبب كثرتهم، وتزايد أعدادهم في كل عصر وعلى مر العصور [3]، فإن المستشرق الروسي كراتشيكوفسكـي (1883 م-1951 م) قد نبه في مناسبات كثيرة من كتابه “تاريخ الأدب الجغرافي العربي”، إلى أن عناية أهل المغرب بفن الرحلة وأدبها قد تجاوزت عناية أهل الأندلس والمشارقة على حد سواء. ولقد انعكست هذه العنية الخاصة في كثرة الرحالين، وتعدد أنواع الرحلات الرسمية والشعبية، فضلا عن أن هذه الرحلات تميزت بالعموم والشمول وذلك بابتعادها عن الصبغة المحلية التي ميزت أدب الرحلة بمشرق العالم الإسلامي، إذ شمل كثير من رحلات المغاربة كلا من ديار الغرب والشرق الإسلاميين، في حين ركزت أغلب رحلات المشارقة على وصف بلدان المشرق الإسلامي . وكل هذا جعل المستشرق نفسه، ينص على أن أبرز التطورات الكبرى في تاريخ الأدب الجغرافي العربي، إنما أحدثها الرحالون المغاربة، بفضل مؤلفاتهم في أدب الرحلة، والتي ظفرت بمكانة رفيعة في المشرق الإسلامي نفسه، وذلك بفضل ما تتصف به معطياتها وأخبارها من عمق ودقة لافتين للنظر. وبخاصة أنها لا تعتمد على المواد المدونة في الكتب وحدها، ولكنها تقوم في الأساس على تسجيل المشاهدات المباشرة. والانطباعات الشخصية التي تعكس تأثير الاتصال المباشر بكل ما يصادفه الرحالة أو يشاهده أو يسمعه في تنقلاته[4].
وعلى الرغم من أن كثيرا من الرحالين المغاربة. لم يدونوا أغلب مشاهداتهم مما سبب في ضياع كثير من المعلومات والمعطيات، وعلى الرغم من أن قسما كبيرا من كتب الرحلات المغربية قد لحقه الضياع أو التلف، وأن بعضها ما يزال مخطوطا في مختلف خزانات العالم ومكتباته، فإن ما تم الكشف عنه لحد الآن، وإن كان قليلا، يقدم معطيات وافرة وغنية لا يمكن الاستغناء عنها في سياق المراجعة الشاملة لمعطيات التاريخ والحضارة المغربيين.
يعترف الدارسون المحدثون بأهمية المواد الإخبارية المختلفة التي يقدمها الأدب الجغرافي العربي التي تعد كتب الرحلات جزءا مهما منه، إذ ينظر إلى هذا الأدب على أنه: “المصدر الأساسي والموثوق به في دراسة ماضي العالم الإسلامي، إذ تتوفر فيه مادة لا ينضب معينها، لا للمؤرخ أو الجغرافي فحسب، بل أيضا لعلماء الاجتماع، والاقتصاد، ومؤرخي الأدب والعلم والدين، وللغويين وعلماء الطبيعة. ولا يقتصر محيط الأدب الجغرافي العربي على البلاد العربية وحدها، بل يمدنا بمعلومات من الدرجة الأولى عن جميع البلاد التي بلغها العرب، أو التي تجمعت لديهم معلومات عنها، وذلك بنفس الصورة المتنوعة التي وصفوا بها ديار الإسلام، وقد يحدث أحيانا أن تمثل المادة الجغرافية العربية، إما المصدر الوحيد أو الأهم لتاريخ حقبة معينة لقطر ما….”[5].
بناء على ما سبق، تتبين أهمية كتب الرحلات، وذلك بالنظر إلى تعدد أصناف الرحالين، وتنوع اهتماماتهم، واختلاف الأسباب وتباين الأهداف التي تدفعهم إلى السفر والتنقل وتدوين كل ذلك في مؤلفات أو مذكرات خاصة، يضاف إلى ذلك كثرة الرحالين من مختلف العلوم والفنون والآداب، ولئن اختلفت أسباب تطوافهم وأسفارهم، فإنها تتفق كلها – على خلاف ما بينها في المنطلقات والأهداف الخاصة- على شيء واحد وهو الرغبة العامة في الكشف والمعرفة بالآخر: إنسانا، وفضاء طبيعيا وواقعا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا وعمرانيا وعسكريا واقتصاديا…إلخ ومن هنا فكتب الرحلات تقدم مواد غنية بالأخبار والمعطيات والمعلومات التي تتصل بمظاهر الحياة والحضارة في البلدان التي تكون مجالا للوصف، وكل هذا يدخل عمل الرحالة ضمن دائرة العمل الإثنوغرافي بمعناه الحديث[6]. ومن هنا تأتي قيمة أعمالهم ومدوناتهم، بفضل ما تقدمه من مواد صالحة ومفيدة في تشكيل صورة عامة عن البلدان والأقوام التي شكلت مجالا لمشاهداتهم، وموضوعا لملاحظاتهم التي تتعلق بعادات السكان ولغاتهم، وتقاليدهم، وقيمهم وعمرانهم، وأنواع نشاطهم، وأحوالهم النفسية وعلاقاتهم الاجتماعية… وتزداد قيمة تلك المعطيات أهمية حين يكون صاحبها من ذوي الملاحظة الدقيقة والنظر العميق إلى الأشياء والأشخاص، بحيث يتمكن من الوصف أو التسجيل الدقيق لمجريات الرحلة في جوانبها المختلفة بغير تحيز أو تأويلات بعيدة عن حقيقة الواقع الذي يكون مجالا للوصف.
وبالنظر في كل ما سبق تأتي أهمية البحث في تاريخ المدينة والبادية المغربية، انطلاقا مما توفره كتب الرحلات، وكذا الكتب والمصنفات الأخرى التي لها صلة ما بهذا الأدب، ككتب المسالك والممالك، وتقويم البلدان، وكتب العجائب، وكتب الأطوال والعروض وغيرها من الكتب الجغرافية المتنوعة، وكتب التراجم والسير والأعلام والمناقب..
وينبغي التنبيه هنا إلى أن أهمية هذه المؤلفات لا تنحصر فقط في مجرد ما تقدمه من معلومات وأخبار عن أحوال تلك المدن والبوادي، وإنما في كونها تعمل على تعميق أواصر الارتباط والاتصال بين حاضرها وماضيها: ذلك أن الوضعية الحالية لكثير من المدن التاريخية المغربية، مهما بدت غريبة أو مخالفة للصورة التي كانت عليها في سابق عهودها، ليست عند التأمل العميق، إلا نتيجة للمراحل السابقة، أو لتطوراتها وتحولاتها سلبا أو إيجابا بفعل تداخل عوامل كثيرة.
ومن هذا المنطلق سنحاول النظر في صورة مدينة أزمور[7]، كما تجسدت في بعض الرحلات [المغربية]، وسنقتصر في هذا المقام على ما كتبه عنها الوزير الشاعر لسان الدين بن الخطيب (713هـ-776 هـ).
إن مدينة أزمور الحالية، بساكنتها، وفضاءاتها العمرانية، وعادت أهلها وتقاليدهم، وكثير من مظاهر حياتها الاجتماعية والدينية والاقتصادية… ليست منقطعة الجذور عن أصولها وجذورها التاريخية، لأنها في نهاية الأمر حصيلة لتراكم كل التحولات والأحداث العامة التي احتضنتها أو كانت مسرحا لها منذ القديم إلى الآن.
تكاد تتفق أغلب المصادر القديمة، وكذا المراجع الحديثة حول منطقة دكالة بصفة عامة، على أن أزمور تعد من أقدم المدن المغربية، وإن كان من المتعذر –في غياب الوثائق والمعلومات الثابتة- تحديد البداية الفعلية لظهور هذه المدينة على مسرح الأحداث في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع والفكر والدين… ويجب في هذا السياق، التنبيه إلى خطإ ما ذهبت إليه دائرة المعارف الإسلامية في نسختها العربية، من أن تاريخ مدينة أزمور، قد ظل غامضا إلى أن قامت الصلات بينها وبين الإسبان والبرتغال في بداية القرن السادس عشر الميلادي[8].
ولاشك في أن هذا الموقف يوهم –خطأ- بان أزمور وضواحيها لم تكن شيئا مذكورا منذ تأسيسها إلى حين احتلال البرتغال لها، و كأنها كانت تنتظر غزوهم وسيطرتهم حتى تظهر على مسرح الأحداث المغربية وهيهات هيهات، متى كان الاحتلال طريقا إلى التقدم والنماء؟
لا يخفى ما في هذا الموقف من مجانبة واضحة للحقيقة ومخالفة صريحة لما سجلته المصادر التاريخية، ومنها كتب الرحلات، وبصفة خاصة عن أحوال المدينة الحضارية قبل الاحتلال البرتغالي. وبعيدا عن المناقشة التفصيلية لهذا الموقف، نقول باختصار شديد: إنه بسبب موقع أزمور المتميز على الضفة اليسرى من نهر أم الربيع، وإطلالها على المحيط الأطلسي، وبفضل حركتها التجارية والاقتصادية المزدهرة، وبفضل خيرات أحوازها في الزراعة والماشية وغيرها مما كانت تجود به أرض دكالة الواسعة الغنية، بالإضافة إلى دور مينائها الذي كان يعرف قبل الغزو البرتغالي حركة ملاحية نشيطة [9]….إلى غير ذلك من الأسباب والمعطيات، فقد كانت من أجل ذلك هدفا مرصودا ومرغوبا فيه من لدن البرتغال وغيرهم. بل يمكن القول في غير مبالغة أو تطرف: إن هذه المدينة التي كانت تعد من أهم الحواضر المغربية قبل القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، قد عرفت نكستها الكبرى، وشهدت أفول نجمها وخبو تأثيرها في الحياة العامة بالمنطقة وخارجها، بسبب ذلك الإحتلال الذي لم يأت عليها وعلى ضواحيها إلا بالخراب والمجاعات والتهميش الذي ظل مخيما عليها إلى ما بعد خروج البرتغال منها عام 1541م [10]ولبيان أهمية المدينة وقوتها الاقتصادية، وبعض مظاهرها الحضارية، نكتفي هنا بإيراد نص للحسن الوزان، يتحدث فيه عن وضعها قبل الغزو البرتغالي، يقول في سياق حديثه عن مدن وقرى دكالة:«أزمور مدينة في دكالة من بناء الأفارقة على مصب نهر أم الربيع في البحر المحيط… وهي كبيرة وآهلة بالسكان، تحتوي على نحو خمسة آلاف كانون، لا ينقطع عنها التجار البرتغاليون،ولذلك فإن سكانها متحضرون حسنوا الهندام وتنتج هذه المدينة، أي باديتها كثيرا من القمح…. ويدر النهر على هذه المدينة سنويا كرسوم على صيد سمك الشابل من ستة آلاف إلى سبعة آلاف مثقال…
ويأتي التجار البرتغاليون مرة في السنة ليشتروا كمية عظيمة من هذا السمك، وهم الذين يؤدون رسوم الصيد المذكورة، حتى إنهم تمكنوا في النهاية من إقناع ملك البرتغال بالاستيلاء على المدينة، فأرسل أسطولا يتركب من سفن عديدة، لكنه انهزم بسبب قلة خبرة قائده، وغرقت معظم السفن.
وقد أعاد ملك البرتغال الكرة على أزمور، فأرسل إليها بعد سنتين أسطولا آخر متركبا من مائتي سفينة، فلم يكد يراه السكان حتى خارت قواهم وأخذوا يفرون….»[11].
لقد عرفت أزمور منذ القديم بتميزها السكاني، إذ تحدث المؤرخون منذ التقسيم الإدريسي للمنطقة عن صنهاجة أزمور بهذا التحديد، مما يفيد أنها كانت تمثل تجمعا سكانيا متميزا بخصائصه ومميزاته، وإلا لما أمكن للمؤرخين القدماء الحديث عن هذه القبيلة مقرونة بالمدينة التي كانت تحتضن ذلك التجمع البشري، الذي كان محاطا بمصامدة دكالة، وقبائل ركراكة، وحاحة وغيرها من القبائل البربرية قبل الهجرات العربية المتتالية للمنطقة وبخاصة منذ عهد الموحدين.
وبالنظر في ما ورد عن هذه المدينة في بعض كتب المناقب والرحلات المغربية يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
1-إن مدينة أزمور، وبصفة خاصة منذ أوائل العصر المرابطي قد صارت تنافس من الناحية العلمية والدينية، أكبر المدن المغربية آنذاك، مثل فاس ومراكش، بل إنها زاحمتهما بقوة فيما يتعلق بالتربية الدينية والصوفية، بفعل نشاط رباطاتها وزواياها ومدارسها المنتشرة في البوادي والقرى الزمورية الكثيرة. بل إنها بفضل انتشار أخبار صلحائها وشيوخها داخل المغرب وخارجه، أصبحت تستقطب عددا كبيرا من الوافدين بهدف التنسك والتعبد أو تحصيل العلوم المختلفة. ولعل في استعراض بعض أسماء المتصوفة،وغيرهم من الأولياء والعلماء الذين تخرجوا من رباطات هذه لمدينة ومراكز العلم بها، ما يدل فعلا عل أنها أصبحت منذ وقت مبكر مركز إشعاع علمي وديني وتربوي، ومصدرا غنيا لتحصيل العلوم المختلفة من فقه وعبادات وتصوف، وأصول، وتوحيد، ولغة، وحساب وفلك إلى غير ذلك. مم تصوره كتب الرحلات والتراجم، والفهارس، والمناقب، والتاريخ والأدب.. .
2-إن تأثير هذه المدينة وإشعاعها الثقافي لم يعد منحصرا في منطقة دكالة، أو في حدود البلاد المغربية فقط، وإنما تجاوز كل ذلك، لتصل شهرتها إلى خارج حدود المغرب، سواء في المشرق العربي أو في بلاد السودان وأفريقيا[12]، وذلك بفعل أخبار شيوخها وانتشار كراماتهم ومناقبهم، وبصفة خاصة تلك التي تتعلق بشيخ أزمور ودفينها أبي شعيب أيوب السارية ت 561هـ)، وبآل أمغار بتيط نفطر المجاورة.
ويكفي في هذا السياق أن نشير إلى ما جاء في كتاب “التشوف إلى رجال التصوف” لأبي يعقوب يوسف بن يحيى التادلي (ابن الزيات) (ت617هـ/1220 م) يقول: “حدثني عبد الرحمن بن يوسف بن عمر قال: حدثني سليمان بن عبد النور قال: رأيت طائفة من متصوفة المشرق وصلوا إلى بلد أزمور لزيارة أبي عبد الله أمغار وأبي شعيب، وأبي عيسى*، فوجدوهم قد ماتوا، فزاروا قبورهم، فقيل لهم: من أين وصلتهم؟ قالوا: وصلنا من بلاد اليمن، فقيل لهم: ما الذي أوصلكم؟ فقالوا لنا: نام بعضنا فرأى في منامه الجنة ورأى فيها قصورا عظيمة فقال: لمن هذه القصور؟ فقيل له: هي لقوم من صنهاجة أزمور وهم ابن أمغار، وأبو شعيب وأبو عيسى.»[13]
وغير خاف أن هذه شهادة قوية على أن تأثير صوفية أزمور، لم ينحصر في منطقة دكالة أو على مستوى التراب المغربي فحسب، وإنما امتدت آثاره وأخباره إلى أقاصي البلاد الإسلامية حتى وصل إلى بلاد الهند وغيرها من الأمصار الإسلامية.
3-وبالنظر في كتب الرحلات والمناقب والكرامات يتبين أن النسبة الكبيرة من متصوفة المغرب بين العصرين المرابطي والموحدي كانت تنتسب إلى منطقة دكالة [14]كما يتبين أن نسبة مهمة من هؤلاء الدكاليين ينتسبـون إلى مدينة أزمور أو إلى إحدى القرى أو المراكز التابعة لها.
4-إن لفظ أزمور لا ينحصر فقط في الدلالة على مجرد هذه المدينة الواقعة على الضفة اليسرى لمصب أم الربيع، وإنما يتسع ليشكل مركزا حضريا كبيرا [15]يشمل المدينة المعروفة، بالإضافة إلى المراكز والقرى التابعة لها، ولذلك نجد بعض الرحالة لا يتحدثون عن مدينة أزمور فقط، وإنما يتحدثون عن “بلد أزمور”، أو “بلاد أزمور”، وقد يضيفون إليها كلمة أحواز (لتصبح أحواز أزمور)، وقد يستعمل بعضهم عبارة (نظر أزمور) للدلالة على الحيز الجغرافي الكبير التابع للمدينة. وقد يستعملون مع اسم المدينة كلمة (إقليم) إلى غير ذلك من الإضافات التي تدل على مدى شساعة المنطقة التي كانت تابعة لمركزية المدينة [16]قبل الاحتلال البرتغالي.
وفي هذا السياق نذكر أن الحسن الوزان حين تحدث عن أزمور قبل دخول البرتغال وصفها بأنها مدينة كبيرة جدا وآهلة بالسكان، وأنها كانت تحتوي على نحو خمسة آلاف كانون، وأن سكانها متحضرون وحسنوا الهندام، وأنها كانت تعرف حركة تجارية وزراعية نشطة كما سبقت الإشارة إلى ذلك في كلامه السابق.
ولبيان هذه المركزية التي كانت للمدينة، يكفي أن نستعرض المدن الصغيرة والقرى والرباطات والمراكز التي كانت تابعة لها، فمن ذلك مثلا مركز إِيفّغْل، ومركز إيغيور، ومركز أفوجك، ومركز أنوميرغن ووازكارت، ورباط تالوتن، ورباط تاسوفيطت، ومركز يليسكاون ورباط تاسماطت، وقرية تايدافلت، وقرية تيمغيسن وتاكدورت، وورتوصف، وتيصرصام، بالإضافة إلى رباط أيسين [17]المشهور.
وقد ذكر الحسن الوزان مدنا ومراكز أخرى منها تمراكشت، وتاركا والسبيت، وبني قفيز، ووصف بعضها بأنها كانت تمثل بدورها مدنا آهلة بالسـكان [18].
ولعله من الطريف هنا أن نشير أيضا إلى أنه على الرغم من شهرة رباط تيط بشيوخه الأمغاريين، فقد كان هو الآخر تابعا لأزمور، وداخلا تحت حكمه وإدارته، ولذلك كان دائما ينسب إلى آزمور مما يفيد أن أغلب الرباطات والزوايا الدكالية كانت تابعة لمدينة أزمور، فقد قال ابن الزيات في سياق الترجمة لإبن أمغار أبي عبد الله محمد بن أبي جعفر اسحق بن سعيد الصنهاجي بأنه، من أهل رباط تيط من بلاد أزمور…»[19]وقد تكرر الشيء نفسه في ترجمته لأبي يعقوب يوسف بن محمد بن أمغار الذي دفن بأزمور كما دفن غيره من الأمغاريين.
ولاشك في أن المكانة السامية التي كانت لمدينة أزمور في نفوس المغاربة في الزمن القديم هي التي جعلت كثيرا من شيوخهم وصوفيتهم يتلقبون باسم المدينة نفسها كما هو مشهور عن ابي شعيب زمور، وأبي محمد زمور بن يعلى الهجزرجي (الذي ترجم له التادلي في تشوفه)[20].
5-إنه يجب العمل بجد على كتابة تاريخ هذه المدينة المجيدة العريقة وإنه يجب أن يتصدى لهذا المشروع الكبير، جماعة من المتخصصين والعارفين بمختلف جوانب الحياة في هذه المدينة التي تستحق أن يكتب لها تاريخها الحافل، وبطريقة موضوعية تبتعد عن الأحكام الجاهزة المسبقة.
ولعل أقوم طريق لتحقيق هذه الغاية هو أن يتجه إلى ما يمكن تسميته بالتاريخ القطاعي الذي ينصب فيه البحث حول الجانب الاجتماعي أو الاقتصادي أو الديني أو العمراني، أو السياسي أو الزراعي أو غير ذلك من المجالات التاريخية، وكل ذلك من أجل الوصول إلى التاريخ العام للمدينة اعتمادا على التواريخ القطاعية في كل عصر على حدة ومن خلال التطورات التي شهدها كل مجال من مجالات البحث..
II-أزمور في كتابات لسان الدين بن الخطيب (713-776 هـ) (1313-1375م).
يعد لسان الدين بن الخطيب، المؤرخ والوزير واحدا من أهم الأدباء والمؤرخين العرب الذين أثروا المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات المتميزة في الأدب والتاريخ والسياسة والطب والموسيقى والأخلاق وغيرها من المجالات، وهي مؤلفات تدل بتنوعها وشمولها، على عمق ثقافته واستغراقها لمختلف العلوم والفنون التي عرفتها الأندلس والمغرب في خلال القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، فضلا عن أنها حصيلة لتجاربه الطويلة في السياسة، إذ يعد من أشهر الوزراء والسفراء في مملكة غرناطة الأندلسية.
ولقد ربطته بالمغرب روابط قوية وصلات وثيقة، لأن هذا البلد هو الذي وجد فيه بر الأمان بعدما لفظته الأندلس وطردته مخ\ولا مكسور الجناح.
زار ابن الخطيب بلاد المغرب أربع مرات ما بين زيارة سفارية رسمية، وزيارة اضطرارية…وكان من نتائج تلك الزيارات تعمق معرفته بكثير من أمور المغرب وشؤونه الداخلية، في السياسة والعمران والعلوم، والدين والمجتمع، وبخاصة أنه كان يملك قدرة كبيرة على الملاحظة الدقيقة لكل ما يصادفه أو يمر به، أو يقرأه أو يسمعه في مجالس الحكم والسياسة أو في مجالس العلم والأدب التي كان يغشاها إبان الإزهار الفكري والعلمي الذي عرفه المغرب في العهد المريني:
1-ففي سنة 752هـ زار ابن الخطيب المغرب لأول مرة سفيرا ومعزيا السلطان المريني أبا عنان في وفاة والده، وقد وصف ابن خلدون تلك الزيارة بأنها كانت موفقة وناجحة.
2-وفي سنة 755 هـ قدم سفيرا إلى أبي عنان، ومستنجدا إياه على الأعداء القشتاليين الذي كانوا يهددون مملكة غرناطة. وقد وصف ابن لخطيب نفسه تلك المهمة في كتابه “الإحاطة في أخبار غرناطة” (2/19) بأنها قد حققت بنجاح الغرض المقصود منها [21].
وقد بقي بالمغرب كما تدل على ذلك رسائله، حوالي الشهر ونصف الشهر.
3-وفي سنة 760 هـ لجأ إلى المغرب رفقة سلطانه الغرناطي محمد الخامس الملقب بالغني بالله، بعد أن طردا من الأندلس. وقد استقرا بفاس في ضيافة سلطانها المريني، محفوفين بمظاهر الاحترام والتكريم التي صورها ببراعة الخطيب في كتاباته ورسائله التي ألفها في الفترة الممتدة ما بين 760و 763 هـ وهي السنة التي رجع فيها إلى الأندلس بعد أن أعيد سلطانه إلى عرشه[22]. وفي هذه الفترة ألف كتابه “نفاضة الجراب في علالة الاغتراب” وكتابه “معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار” بالإضافة إلى مجموعة من المؤلفات الأخرى، وقد مكنته إقامته واستقراره من القيام بعدة رحلات وزيارات لكثير من المدن والبوادي المغربية.
4-وقد زاره أخيــرا بعد (10) عشر سنوات: ففي سنة 773 هـ عــاد ابن الخطيب إلى المغرب فارا من غضب السلطان الغرناطي عليه، وسوف يبقى به إلى غاية 776 هـ، حيث سيعرف نهايته الحزينة بفاس بعد أن قتل وهو في سجنه الذي أدخله بعد محاكمة صورية معدة سلفا[23].
ومن المعروف أن ابن الخطيب الذي اشتهر بذي الوزارتين كان مهتما بتدوين تفاصيل تنقلاته ورحلاته الرسمية والشخصية في قوالب فنية تمتزج فيها المعطيات والأخبار التاريخية بالأبعاد الجمالية والأساليب الفنية التي يوظفها بطرق إبداعية بارعة في التصوير والنقل.
وقد ضاعت كثير من مؤلفاته بسبب إحراقها بغرناطة، أو بسبب ضياعها وتلفها ضمن ما ضاع من مؤلفاته.
وسنحاول أن نقف بصفة خاصة عند ما تبقى من كتابه “نفاضة الجراب في علالة الاغتراب” الذي ألفه ودون فيه تفاصيل زياراته وتحركاته بالمغرب خلال الفترة الممتدة بين 761- 763 هـ، ويهمنا بصفة أخص أن نقف عند ما كتبه عن مدينة أزمور وأهلها سواء في كتابه النفاضة، أو في كتابه “معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار”. وسنبدأ أولا بحديثه عن مدينة أزمور كما جاء في النفاضة.
يبدأ الجزء الثاني المتبقي من نفاضة الجراب بتسجيل مروره بجبال هنتاتة الأطلسية، حيث يصف المكان، ويصور مظاهر الاستقبال والاحتفاء به، ويتحدث عن أصناف المأكولات والمشروبات والفواكه المقدمة[24]،ثم يصور حلوله بأغمات، فيصف محاسن المدينة وسذاجة أهلها المشفوعة بطيبوبة خاصة، كما يتحدث عن بعض معالمها الحضرية وبعض علمائها، ويصور زيارته لقبر المعتمد بن عباد ملك اشبيلية…[25]
وفي طريقه إلى مدينة سلا، يصف مروره بمراكش، ويطيل في وصفها والحديث عن علمائها وعمرانها وساحاتها ومدارسها وجوامعها…وبعد ذلك يمر بآسفي ودكالة وآزمور فيصفها من نواح كثيرة تشمل العمران والسكان وأخلاقهم والمكتبات والعلماء والشيوخ الذين لقيمهم.
ويهمنا أن نقف عند حديثه عن مدينة أزمور، وقبل أن نعرض لذلك نشير إلى أنه تحدث عنها بنوع من الاحترام والتقدير لرجالها*الذين لقيهم بالمدينة وضواحيها. كما أنه يتحدث عن أحواز أزمور، فيجعل مرسى مازيغان –كما يسميه- تابعا لمدينة أزمور[26]، ويصف بعض المراكز الأخرى التابعة أيضا لها، بما يفيد أن هذه المدينة ظلت محافظة على عظمتها منذ المراحل الأولى للحكم المرابطي إلى زمن المرينيين الذي عاصره ابن الخطيب
يقول ابن الخطيب [27]واصفا مروره بدكالة عامة وأزمور بصفة خاصة:” ثم سافرنا منه إلى سور موسى من مجامع دكالة، وهو حلق ذو شرفات وأبراج…
وكان المبيت بحصن أسايس من حصون دكالة شأنه شأن ما قبله بطلل، دار عادية ملوكية الوضع، تنسب لأحد أشياخ الوطن ممن غمس يده من الجباية في الدم والفرث تدل على انسحاب دنيا كانت سحابة صيف، والله يتجاوز عما جرت من نكير، فهو الذي يؤاخذ بما كسبت الأيدي ويعفو عن كثير.
ورحلنا من الغد في سهل اقتحمنا به حدود الصنهاجية[28]وبتنا بموضع يعرف بإسكاون بإزاء رجل منتم للصوفية أعجم اللسان، قام بالنزول على خصاصة واضطرار، فأنبنا واحتسبنا كدحه.
وعدنا من الغد إلى أزمور[29]،فرأينا صدق المثل في قولهم العود أحمد، فتلقينا بها أصناف الفضلاء مصحرين، ولوظائف البر متممين، وقاهم الله معرات السنين وكرم وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه في يوم العرض والدين.
وبرز إلينا الحسن بن يحيى بن حسون، فتى الفتيان بالغرب، وغاية السرو، وآية المروءة، والمثل البعيد في الإيثار على الخصاصة، ومخجل الضيف وريحانة التلطف، فأربى الخُبر [30]على الخبر والحمد لله.
وكان السفر عن تشييع تتعلق بالأهداب أظفاره، وفضل عم الخافقين اعتذاره وأوجب ذلك مما خاطبتهم به:
إحسانكم يا بني يحي بن حسون |
| أزرى على كل منثور وموزون |
وبالنظر في مجمل هذا الكلام يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
1-إن ابن الخطيب عني بمنطقة دكالة عناية خاصة، وكانت وقفته في أزمور تعكس أهميتها ومكانتها المتميزة في المغرب عامة، وفي نفسه أيضا، وإلا لما أطال الحديث عنها وعن نزوله بضواحيها: فقد تحدث عن أزمور وبعض رجالها في أماكن متفرقة من النفاضة [31]فكان حديثه عنها مبنيا على التقدير والمدح والثناء لرجالاتها الذين بعثهم بالفضل والإكرام.
2-يستفاد من كلامه عن المدينة، أنها كانت إلى عهده حاضرة دكالة جميعا، وأن دكالة كانت تذكر بمدينة أزمور، باعتبارها المركز الحضاري الأكثر أهمية في المنطقة عامة، ويتبين ذلك من قوله “وعدنا من الغد إلى أزمور، فرأينا صدق المثل في قولهم العود أحمد….” النص[32].
فكأنه كان يستعجل الخطى لدخول هذه المدينة حتى يتحقق من مدى صدق ما يحكى عنها وعن رجالها الفضلاء من مدح وثناء وذكر حسن.
3-إنه أعجب كثيرا بالمستوى الحضري للمدينة وسكانها الذين أكرموا وفادته، فتلقوه بمظاهر الترحيب والإكرام، مما جعله يشعر بتميزها عن كثير من الحواضر المغربية، ولهذا الشعور دلالة كبيرة إذا استحضرنا أنه صادر من عالم أندلسي كابن الخطيب الذي نشأ في حضارة الأندلس وفي مملكة غرناطة بصفة خاصة.
4-إن ابن الخطيب خلد المدينة فذكرها في شعره مادحا إياها بعد أن خضع لقوة تأثيرها في نفسه، مما جعله يحس بأنها طوقته بجميل أهلها، ولذلك يصرح بأن نظم الشعر فيها وفي من لقيهم بها أصبح واجبا عليه، وفرضا لا ينبغي له إهماله أو السكوت عنه، فنظم تلك القصيدة النونية التي عبر فيها عن صدق مشاعره وشدة تأثره العميق بما استقبل به في هذه المدينة التي احتلت موقعا خاصا في ذاكرة ابن الخطيب بفضل ما تميزت به من مستوى حضاري يدل على درجة كبيرة من تقدم أهلها وتأنقهم في المأكل والملبس، ومراسيم الاستقبال والتوديع التي خص بها من لدن أهلها، سواء من العلماء الذين لقيهم أو من لدن عامة الناس الذين صادفهم في تنقلاته بالمدينة وأحوازها.
5-يستفاد من مجمل حديثه عن المدينة ورجالاتها من الصوفية والعلماء وغيرهم، أنها كانت المركز الحضري البارز في كل منطقة دكالة، وأنها كانت تتحكم إداريا في مناطق حضرية أخرى، مما جعل أمراء بني مرين حريصين على كسب عطف أهلها ومناصرتهم، وليس أدل على ذلك من محاولة أبي سالم ابراهيم المريني ضم المدينة وسكانها لمناصرته، وقد وصف ابن الخطيب نفسه فشلـه في ذلك المسعى، وكيف أنه رجع من هناك بخفــي حنين كما يقول. [33]و يستفاد من مجموع وصف ابن الخطيب لأزمور ذلك المفهوم الموسع للمدينة، مما يدل على أن ذلك المفهوم الذي كان متداولا عند التادلس في كتابه “التشوف”، قد ظل متداولا أيضا إلى زمن ابن الخطيب في القرن الثامن الهجري. وقد استمرت هذه الدلالة الموسعة للمدينة في كتابات الحسن الوزان ومارمول وديطريس وغيرهم من مؤرخي القرن السادس عشر وما تلاه.
6-هناك بعض الحقائق المتعلقة بساكنة المنطقة، وهي تتعلق بلغة السكان، في العهد المريني، فعلى الرغم من أنه قد مرت مدة ليست بالقصيرة على توافد الهجرات العربية إلى المنطقة منذ العهد الموحدي، فقد ظلت اللهجة البربرية هي السائدة في المنطقة، حيث إن الهجرات العربية إلى المنطقة، كانت لما تؤثر بعد على لغة التخاطب اليومي في المنطقة بصفة عامة. إذ ظل أهالي المدينة وضواحيها محافظين على لسانهم البربري الذي وصفه ابن الخطيب بالعجمة لأنه لم يكن يعرفه.
وبصفة عامة فقد كان لسان الدين بن الخطيب في نفاضة الجراب يسجل كثيرا من جوانب الحياة العامة في المدن والمراكز والقرى التي كان يمر بها في رحلته، فكان يعني فيها بالحديث عن الطبيعة العامة للمدن والقرى، فيشير إلى ما يكون بها من عمران (أسواق، دروب وأزقة، مدارس، مارستان، خزائن الكتب…) وقد يقف عند الحركة العلمية والدينية التي تميز المدن والمراكز التي يمر بها، وقد يشير إلى كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية المتعلقة بالعادات والتقاليد في اللباس، والأطعمة والمناسبات الاجتماعية…إلى غير ذلك مما كان يرصده في رحلاته الرسمية والشخصية، بحيث تجمعت لديه كثير من المعطيات التي استقاها إما من مشاهداته المباشرة، وإما من خلال التقارير الإدارية الرسمية التي كان يطلع عليها أو يقوم هو نفسه بكتابتها لملوك غرناطة قبل النكبة به، إذ كان وزيرا لملوك بني الأحمر في غرناطة، كما كان صديقا لملوك بني مرين بالمغرب. ولاشك أنه أفاد كثيرا من موقعه السياسي الذي أتاح له فرصه الاتصال المتكرر مع الوزراء. والقواد، والحكام والسفراء وغيرهم من ذوي السلطة، وكل ذلك مكنه من التحقق المباشر من الوثائق والمدونات الرسمية، مما يضفي على مضامين رحلاته قيمة خاصة، سواء تعلق ذلك بالمعلومات التاريخية أو الجغرافية أو الأدبية أو السكانية…
وإذا انتقلنا إلى الحديث عما كتبه لسان الدين بن الخطيب عن مدينة أزمور في كتابه “معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار”، فيجب التنبيه أولا إلى أن لهذا الكتاب طبيعة خاصة، تختلف عن باقي مؤلفاته الأخرى بما فيها نفاضة الجراب: فقد بناه على أسلوب المقامات، ومعلوم أن المقامة عمل لغوي في الأساس، يرتكز على العناية الكبيرة بالأسلوب حتى لتصبح هدفا مقصودا لذاته أحيانا، بحيث تصير الصنعة اللغوية من أهداف التأليف والكتابة، وعلى الرغم من هذه الطبيعة الأسلوبية الخاصة فإن من أهم ما يميز المقامات هو ذلك البعد الإنتقادي الذي يروم نقد المجتمع وبيان مظاهره السلبية. ومن هذا المنطلق فقد ألف ابن الخطيب مقامته “معيار الاختيار” ليكشف عن الجوانب السلبية التي تميز تلك المدن التي وصفها في رحلته المقامية الطريفة.
قسم ابن الخطيب مقامته إلى مجلسين: وصف في الأول أربعة وثلاثين مدينة أندلسية، وفي المجلس الثاني وصف (19) تسعة عشر مدينة مغربية، وقد ركز وصفه لها جميعا على الموقع الجغرافي، والمكانة التاريخية، وبعض أحوال السكان وظروف معيشتهم من النواحي الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية…وإذا كان في النفاضة قد عني بإبراز الجوانب الإيجابية لمشاهداته، فإنه في معيار الإختيار لم يعن إلا بإبراز العيوب والمثالب والسلبيات التي تميز كل مدينة أو قرية أو مركز. ذلك أن أغلب المدن والمراكز الحضرية أو البدوية التي وصفها من الناحية الإيجابية في النفاضة، قد انقلب عليها في “المعاهد” ليكرس وصفه لها على النواحي السلبية حتى إنه لم تسلم من نقده اللاذع تلك المدن الأندلسية العظيمة التي لطالما امتدحها وتغنى بجمالها كغرناطة وغيرها [34] ولكنه آمن أن أي أمن لا يعرى من مخافة؟ وأن لكل شيء آفة[35]ولذلك لا يمر بمدينة أندلسية أو مغربية إلا وقف عند جوانبها السلبية، وقد كان في كل ذلك دقيق الملاحظة بارع الوصف في التصوير، تساعده في ذلك قدرته البيانية الخارقة مما جعل الوصف الإيجابي أو السلبي يعكس كثيرا من جوانب الواقع الاجتماعي والنفسي والأخلاقي والاقتصادي لسكان المدن والقرى التي حظيت بوصفه.
وللتدليل على ما أشرنا إليه، نكتفي هنا بما قاله عن غرناطة، فبعد أن أطنب في مدحها، ووصف معالمها العمرانية الخلابة، وحدائقها الغناء وموقعها المتميز، وما نتج عنه من اعتدال مزاج أهلها… ورقتهم في سلوكاتهم وتأنقهم في ملبسهم ومسكنهم ومأكلهم..بعد كل ذلك يقول على لسان الراوي: ” ثم قال: أي أمن عري من مخافة؟ وأي حصافة لا تقابلها سخافة؟ ولكل شيء آفة. لكنها –والله- بردها يطفئ حر الحياة، ويمنع الشفاه عن رد التحيات، وأسعارها يشعر معيارها بالترهات، وعدوها يعاطي كؤوس الحرب فهاك وهات، إلى السكك التي بان خمولها، ولم يقبل الموضوع محمولها، والكرب الذي يجده الإنسان فيها، صادف إضافة أو ترفيها، والمكوس التي تطرد البركة وتنفيها، إلى سوء الجوار، وجفاء الزوار، ونزالة الديار، وغلاء الخشب والجيار، وكساد المعايش عند الاضطرار، وإهانة المقابر وهي دار القرار، وقصر الأعمار، واستحلال الغيبة في الأعمار، واحتقار أولى الفضل والوقار، والتنافس في العقار، والشح في الدرهم والدينار، باليم والنار…»[36].
فعلى هذه الشاكلة يتحدث ابن الخطيب على لسان الراوي فيقول عن مدينة أزمور، بعدما وصف بادس وسبتة وطنجة وكتامة وأصيلا وسلا، وأنفا: “قلت: فأزمور؟
“قال: جار واد وريف، وعروس ربيع وخريف، وذو وضع شريف أطلت على واديه المنازه والمراقب، كأنها النجوم الثواقب، وجلت من خصبه المناقب، وضمن المرافق نهره المجاور،وبحره المصاقب. بلد يخزن الأقوات، ويملك اللهوات. باطنه الخير. وإدامه اللحم والطير، وساكنه رفيه، ولباسه يتحد فيه، ومسكنه نبيه وحوته الشابل ليس له شبيه. لكن أهله – إنما حرثهم وحصادهم اقتصادهم، فلا يعرفون أرضاخا، ولا وردا نضاخا، يترامون على حبة الخردل بالجندل، ويتضاربون على الأثمان الزيوف بالسيوف، بربري لسانهم، كثير حسانهم، قليل إحسانهم، يكثر بينهم –بالعرض- الافتخار، ويعدم ببلدهم الماء والملح والفخار.”[37].
ونكتفي هنا بهذا النص الطريف، لأنه لايحتاج فيما بدا لنا إلى تعليق أو تفسير يخرج به عن مقصد ابن الخطيب من كتابته لمعيار الإختيار.
د. عبد القادر حمدي
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=1148