د. محمد معروف
يقوم التمثل الاجتماعي للغير في الثقافة الشعبية الإسلامية بالمغرب أساسا على تصور ثقافي لامتلاك الجن للإنسان، وهو تصور راسخ ومتجذر في الذهنية الثقافية المارابوتية التي تعمل على ترويجه وتثبيته بدعوى أنه جزء لا يتجزأ من المعتقدات الدينية الرسمية ، إذ تنشد ضالتها فيما يسمى بالرقية الشرعية في الإسلام، و لن نخوض في تفاصيل الاختلاف بين طقوس الرقية الشرعية والرقية عن طريق ترياق البركة، لأننا انطلاقا من المقاربة الثقافية التي تدرس المعتقدات في إطار المعيش والممارسة اليومية، نعتبر أن هذه الطقوس تتشابه في تمثلها للغير، إذ تعمل على إبراء الذات وإخلاء ذمتها من مسؤولية الأخطاء التي قد ترتكبها، كما تقوم بإسقاط هذه الأخطاء على مشاجب الغير وتجريمها.
ويمكن اعتبار الآخر بأنه مفهوم موضعي يتشكل من الاختلاف الجذري عن الفئات الاجتماعية المماثلة له، و هو يمثل تهديدا ملحا للمجتمع بحكم هذا الاختلاف، فالغرباء، و الجن ، واليهود، والنساء، مثلا يمكن اعتبارهم نماذج توارثية للغير، إذ النقطة الأساسية التي يجب تداولها بهذا الخصوص، هو أنهم يخشون ليس لأنهم أشرار بالفعل، ولكن هم أشرار، لأنهم يمثلون الآخر المختلف و الغريب.
ما يسود بين ثنايا هذه الذهنية الثقافية، هو أننا من المرجح أن نسقط ضحايا لمكائد الآخرين، فداخل المزارات المغربية ، على سبيل المثال ، يسعى المعالجون التقليديون إلى مساعدة المتوسلين بتفريغ توتراتهم من خلال إعفائهم من أي شعور بالمسؤولية عن أخطائهم ، و إلحاق اللوم اجتماعيا بأكباش فداء قد يتمثلون في الربيب (الربيب كيبقى غير ربيب وخى يدير واد من العسل وواد من الحليب)، وزوجات الآباء، وأمهات الأزواج (الحماة/ العكوزة( ، و شركاء الزوجية ، و الجيران ، والأصدقاء ، والأرواح ، والعين الشريرة، الخ .
ويتم حث المتوسلين على التمسك بالاعتقاد بأن هناك غيرا يكن لهم الشر ويصنع كمائن سحرية لإلحاق الأذى بهم، وهؤلاء الغير يتم استهدافهم ككبش فداء، حيث يقوم المتوسلون بإسقاط تحويري على هذه الأكباش لجوانب من تجاربهم، وأوهامهم ومخاوفهم و ذكرياتهم و قلقهم اليومي الذي يعانون منه.
و يمكن توجيه عملية الإسقاط التحويري نحو أعضاء اجتماعيين نمطيين يمثلون هدفا لازدراء الجمهور، وبالتالي يشكلون تهديدا أقل للمتوسلين. “هذه العملية التي تحول من خلالها الفئات الاجتماعية الدنيا قوتها التصويرية والفعلية، ليس ضد من هم في السلطة، ولكن ضد أولئك الذين هم أقل منهم شأنا، تعرف بالتحقير الاستبدالي” (ستوليبراس ووايت، 1986، ص (53.
إن رواد المزارات الذين ينحدرون في الغالب من الجماهير المحرومة التي تعاني شتى أنواع المظالم الاجتماعية ، وتقبع في الفضاء السفلي من الهرم الاجتماعي، يعلقون مشاكلهم والمعوقات التي يعانون منها على مشاجب الغير الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية أكثر دونية، و بدلا من إلقاء اللوم على الطبقات الاجتماعية المهيمنة التي تحتكر الثروة والسلطة معا، وتستخدمهما على حساب حرمان الجماهير، يعمد هؤلاء البؤساء إلى توجيه عدائهم تجاه أولئك الذين هم أقل منهم درجة، وأشد منهم بؤسا.
يقوم البسطاء من العوام بإسقاط جوانب من السلوكيات النمطية للسيد على شركائهم الاجتماعيين المماثلين، وتتمثل هذه السلوكيات في الوحشية و العنف و الخداع و المكر والدهاء، وهكذا، يتمظهر أسفل الهرم الاجتماعي بأنه مشرذم تمزقه صراعات واهية، حيث ينهمك معظم أعضائه في اقتتال داخلي بائس، وتجريم متبادل، فيصبح غير قادر على التعايش بشكل جماعي.
و في المزارات المقدسة التي تناولناها بالدرس والتحليل في أبحاث أكاديمية سابقة، لاحظنا أن كلا من رواد المزارات والمعالجين التقليديين يتقاسمون رؤية مشتركة للعالم تنبني على أن الحذر وعدم الثقة) لاتيق) هو قانون البقاء على قيد الحياة في غابة اجتماعية، يعتقد فيها أن الآخر في حالة تربص دائم وعلى أتم الاستعداد لحرمان الناس من القليل الذي هو في حوزتهم، عن طريق تعاويذ سحرية.
ويستهدف الآخر، إذ يعتقد أنه يسعى إلى التخلص من منافسيه الأبرياء، ويعيث فسادا بشكل ضار و خطير على الحياة الاجتماعية من خلال اللجوء إلى السحر، وتسليط العين الشريرة، و الإفراج عن سطوة الجن.
حين تعيش العامة على إيقاع مثل هذه الشكوك، ستحبط لامحالة محاولات تحالفاتها الجماهيرية ضد المظالم المحتملة الناجمة عن سوء استخدام السلطة، ونتيجة لذلك، تظل الفئات المحرومة ترزخ تحت نير القوى الاجتماعية المهيمنة القسرية التي تبقيها تحت السيطرة، وهي تتجسد في السلطة المحلية المتمثلة في القائد، أو السلطة المخزنية المتمثلة في الشكل التقليدي للحكم، ويقصد بها كذلك المحاكم القضائية، أو البركة التي تم توطينها من طرف المخيال الشعبي في عدة مراكز مقدسة لتوزيعها على عامة الشعب، و على رأسهم مؤسسة السلطان -الولي، أو أي جهاز مهيمن آخر للسلطة ترى فيه الجماهير قدرة على حفظ النظام ومطاردة / تأديب شر الغير.
تشمل نماذج الآخر في الثقافة الشعبية المغربية كلا من وكلاء البشر و الجن الذين تنسب إليهم مسؤولية إنتاج سحر ذي مفعول مدمر لإذاية أشخاص مستهدفين، ويعتبر الإنسان المغربي البسيط نمطا اجتماعيا نفاذيا يخضع لوحشية و مكر واختراق الآخر، وهكذا يطلق سراح الإنسان البسيط من تحمل مسؤولية وتهمة أخطائه ،وكذلك من جميع أنواع لوم الذات وتوبيخها.
إن هذه النظرية السببية قد تخفف التوترات النفسية والعاطفية التي يعاني منها الأشخاص، وتعفيهم من تحمل المسؤولية عن أعمالهم الفردية، ونسوق أمثلة من خلال الاعتقاد الشائع بأن آليات العين الشريرة، وأنثى الجني المطاردة أو القرينة، وآليات الحظ، و الجن الهوائي (لرياح)، والبرد، وسم البشر، كلها قوى اجتماعية يمكن أن تدير دفة بخت الإنسان المغربي البسيط.
إن هذه القوى قد تؤثر في حالة الشخص الصحية، وعمله، وأسرته، وحياته الاجتماعية ككل، و في إطار التصدي لخطر انتقام الغير، تحث الأساطير المغربية الناس على تجهيز أنفسهم وتحصينها بتدابير وأسلحة وقائية مثل البركة، والطلاسم، والبخور، و الطوالع، والآثار المقدسة (الباروك)، والصلوات وذلك لحمايتها من مرمى سهام العين والمكائد الشريرة التي يعتقد أنها ترسانة هجومية يحركها الآخر في مناوراته، وبالتالي، فالتفاعلات والعلاقات الاجتماعية تصبح محكومة بعدم الثقة المتبادلة، إذ ينغمس الناس في الملامة والتجريم المتبادل، و تغيب أي إشارة تدل على إمكانية انصهار جمهور العامة في وجدان إرادة جماعية.
وفي هذه المرحلة، لا بد من القول إن هذه النظرة الثقافية الشعبية ترتكز أساسا على ثنائية الذات مقابل الآخر، فعندما يستشير مرضى الامتلاك الجني معالجين تقليديين، يوضح لهم هؤلاء مخاوفهم وقلقهم، عن طريق إقناعهم بوجود آخر شرير ميال للتربص بهم و جاهز لإيذاء حياتهم.
هذا الآخر قد يكون، على سبيل المثال، جارا يقتسم معهم فضاءهم الاجتماعي داخل الحي، و بالرغم من انه يتقاسم معهم شظف الحياة اليومية المعتادة ومعاناتها، يعتقد في الذهنية الثقافية الشعبية أنه يتتبع تجارب حياة الأشخاص، ويستاء من إنجازاتهم، مما يدفع به للقيام بردود أفعال، من حسد، و انتقام بعزائم سحرية، وقذفات من العين الشريرة.
وقد يكون الآخر من الأقارب كأم الزوج أو الحماة (العكوزةياراسالدلو/ أنتيحارةوولدكحلو)، أو أم الزوجة (النسيبة/ أو المصيبة)، وكلتاهما تنتميان لتراث أبيسي لازال يتحكم في الذهنية الثقافية الشعبية، فعادة ما تقوم “العكوزة” باستشارة خبراء السحر لتقييد حنان ابنها تجاه زوجته والحفاظ على اعتماده عليها، وتلجأ الزوجة كذلك إلى السحر لضمان انجذاب زوجها الجنسي المستمر تجاهها، و استبعاد كل المنافسين المحتملين.
و قد يكون الآخر مشجبا مجهولا ذا طبيعة مجردة، أو جنيا، إما أرسل تحت الطلب، وإما يهاجم بصفة عشوائية “قليلي الحظ” لارتكابهم أخطاء ضده. ويتفق المرضى والمعالجون على افتراض، مفاده أن الجن قد يمتلك البشر من جراء تعويذة سحرية استخدمها آخر حسود، أمرت الجني بالقيام بذلك، أو قد يكون امتلاك الجن للإنسان نتيجة لسوء سلوك عرضي ارتكبه المريض نفسه، ويعرف بالمخالفات ضد الجن (الأغلاط مع الجن)، ونذكر منها: التبول في البرية، و تخطي الدم، والبالوعات، و الذبح عند الغسق، وسكب الماء الساخن في البالوعة، والنداء على الجن بأسماء غير ملطفة، و السباحة وقت الغسق، والبقاء عند حلول الظلام في الخلاء، أو المقابر، أو على شاطئ البحر، الخ.
تتجسد جليا شيطنة الآخر في الامتلاك الجني، إذ يدعم المجتمع الحفاظ على المعايير الأخلاقية السائدة التي يلتزم بها أفراده، والدفاع عن استمرارها، فتعرض الذهنية الشعبية مصير أي منحرف، بطريقة أو بأخرى، إما للإصلاح والترويض عن طريق “الصريع”، وإما السجن في إحدى السراديب المقدسة (ما يعرف بالخلوة)، وبعبارة أخرى، يتم تقويم السلوك الاجتماعي بعلاقة اجتماعية ثنائية بين البشر و الجن، فيعيش الكثير من العوام تحت خوف مستمر من أن الجن قد يقوم بمهاجمتهم إذا وجدوا مذنبين بأفعال سيئة أو غير مشروعة
وفي هذا الصدد، فإن مفهوم الجن يقترب من مفهوم جلب العار (حشومة) الذي يستخدم كأداة للسيطرة الاجتماعية، ويمكن اعتبار أن صورة الجن لها تأثير أكثر قوة من العار، لأنها ترتبط بأشياء غير مرئية وصعبة الإدراك. إن مفهوم العار يعتمد بدلا من ذلك، على نظرة الآخرين إلى الذات، حيث تصبح هذه النظرة مؤثرة في سلوكيات الفرد، ويعتبر هذا بمثابة مبدأ التنظيم الخارجي الذي يشير إلى الصورة الاجتماعية المعلنة في المجتمع.
و إذا لم يتم استبطان الأخلاق جيدا من طرف أعضاء المجتمع، فإن قاعدة الشرف ضد العار الاجتماعية قد تفضي إلى نفاق اجتماعي، تجيز من خلاله الذات الاجتماعية السلوك غير المشروع في السر، بينما تتظاهر في العلن بمظهر اجتماعي منضبط. ووفقا لجورج موردوك، فإن المجتمعات تنقسم إلى صنفين اثنين فيما يتعلق بالطريقة التي تنظم السلوك الاجتماعي، إذ هناك مجتمعات تسعى إلى تثقيف أعضائها عن طريق استيعاب واستبطان القواعد والمحظورات، وهناك مجتمعات تعتمد على وسائل خارجية كالقمع، باعتباره ضمانا وقائيا، و قواعد تؤدي إلى تجنب السلوك السيئ، وفرض نظام حياة صارم كارتداء الحجاب، أو العزلة ، أو المراقبة.
إن مفهوم العار ينتمي إلى الفئة الثانية من قواعد السلوك، وهو قاعدة تجنب السلوك غير اللائق، وهذه القاعدة لا تمكن الذات الاجتماعية من استيعاب الشعور بالذنب، فما يؤخذ بعين الاعتبار هو الخوف من معرفة الناس بالسلوك السيئ. إن نظام الأخلاق المغربي يتبع نفس هيكل ميثاق “الشرف ضد العار” في البناء الثقافي لمفهوم الامتلاك الجني، بصفته وسيلة للسيطرة الاجتماعية، حيث يستحضر عناصر شرطة غير مرئية في شكل جن، يتصور أن يكون في كل مكان، ويراقب سلوك الأعضاء الاجتماعيين، كما يعاقب المخطئين.
و على سبيل المثال، يجب على الناس الوضوء و الصلاة في مواعيدها، واعتماد سلوك اجتماعي تقي سليم من أجل تجنيب أنفسهم خطر هجوم الجن، ففي المخيلة الشعبية، تمثل الصلاة عاملا حاسما في حماية النفس من استحواذ الجن على الذات. و عندما كنا نقوم بالبحث الميداني حول هذه الظاهرة، واجهتنا الكثير من حالات الامتلاك الجني التي يتحدث فيها الجن من خلال صوت الوسائط أثناء عملية طرد الجن “الصريع”، مؤكدا على أن المريض يحرقه بإقامة الصلاة، ويعتقد عموما أن الصلاة سلاح قوي لطرد الجن من جسد الإنسان، فعلى سبيل المثال، و للتأكد من أن الشخص شفي تماماً، يقوم المعالج التقليدي بالنداء للصلاة (الأذان) في إحدى أذنيه، و إذا ظل المريض هادئا، تعتبر تلك علامة على أنه تخلص من قرينه الجني، و إذا ظهرت عليه علامات الانفعال، فهذا يدل على أن الجني لا يزال يتلوى بداخل جسمه تحت ضغط قوة كلمة الله المقدسة.
وبصفة عامة، يعتقد عامة الناس أن السلوك الديني السليم قد يتمكن من حمايتهم من هجوم الجن، لكن من منطلق التنشئة على الأخلاق والمثل، لا ينمي رهاب أو فوبيا الجن (أي العيش في ظل الخوف الشديد والمتواصل من هجوم الجن) في الأعضاء الاجتماعيين الشعور بالذنب تجاه السلوك الاجتماعي العام لديهم، إذ يحدث القليل من الإحساس بالذنب من خلال التحريض على الخوف من الجن أو العار (حشومة)، إلا أنهما يظلان مجرد أدوات وقائية خارجية لضبط السلوك الاجتماعي، وهما يؤديان وظيفة تحصينية كالحجاب، واللحية، و الجلباب، و العباءة، لكن حينما تصبح رموز الخوف غير مفزعة للذات الاجتماعية، فإنها قد تمارس كل الأشكال الممكنة من الخداع، دعونا نوضح هذه النقطة بالتعليق على الأشكال التقليدية لتنشئة الأطفال في المجتمع المغربي.
يعتبر رهاب الجن ممارسة ثقافية متأصلة في تربية الأطفال و تنشئتهم الاجتماعية، خاصة في مستوى قاع الهرم الاجتماعي، حيث أن معظم الآباء والأمهات لازالوا يربون الأطفال وفقا لخطاطة الخوف الثقافية، أو ما قد نسميه “بالبوعوية“، إذ يلقون بالجن في المعادلة ويصنفونه كآخر يشكل مصدر خوف للطفل الذي يعصى الأوامر، وبالفعل، يستجيب الأطفال لهذه الأداة للسيطرة الاجتماعية، لكن دون استبطان ما هو، ولماذا، وكيف للسلوك الاجتماعي، إنهم يطيعون بدافع الخوف فقط، وليس عن فهم وإدراك واقتناع.
يقول لك الرجل المغربي العادي: “يتم التعامل مع الأطفال كأطفال، وحينما يكبرون سوف يفهمون”، و هكذا تتم تنشئة الأطفال على الخوف من رموز خارجية مثل “بوعو” (كائن وحشي خيالي)، و رحمة الله وهو اسم ملطف لكائن جني من الإناث، أو (أمنا الغولة) نسبة إلى الغول، الكائن الأسطوري، وذلك لنهيهم عن ارتكاب مخالفات اجتماعية، ويتطبع هؤلاء الأطفال خلال نموهم في هذا المحيط على ميول قوي إلى الخوف من فزاعات السلطة. و إذا لم يتعرض هؤلاء الأعضاء الاجتماعيون لعملية استيعاب المعايير الأخلاقية، ستسود إجراءات وقائية خارجية في تطبعهم، فكلما أتيحت لهم فرصة الانفلات من مراقبة “الفزاعات”، مثل رجال الشرطة والحراس، فمن المرجح أن يغرق هؤلاء في جميع أنواع المخالفات الاجتماعية، أو حتى السلوك الإجرامي، لا سيما إذا كان مسارهم الاجتماعي قد واصل طريقه نحو الانحراف.
إن الواقع المغربي في مستوياته المكروية الصغرى يعج بالأمثلة حول الإجراءات الوقائية والفزاعات، دعونا نأخذ مثالا من الحياة الروتينية لدينا، فضوء حركة المرور في المناطق المغربية، كالمدينة التي أعيش فيها، غالبا ما يتطلب وجود شرطي، بصفته فزاعة و مصدر خوف لمستعملي الطريق، بينما في البلدان الأوروبية، معظم إشارات المرور، ليست مراقبة، إلا في أماكن أو أوقات معينة، حيث يمكن أن يحدث هناك بعض الاختناقات المرورية، ربما قد تجد شرطيا أو كاميرا مراقبة، لكن هنا، تجد ضوء حركة المرور والشرطي يقفان جنبا إلى جنب، وهذا الأخير يراقب سائقي المركبات، و أحيانا تشاهده يتربص بهم، إن هم أقدموا على انتهاك القانون، وتجاوزوا الإشارة الضوئية الحمراء.
وهذا يدعونا إلى القول بفرضية أنه إذا غاب الشرطي بوصفه رمزا للعقاب، قد يمر بعض سائقي المركبات مقتحمين الضوء الأحمر. وإذا ألقينا نظرة سريعة على كيف يستعمل راكبو الدراجات النارية، والدراجات الهوائية، والمشاة الطريق، فإننا سندرك على الفور الفرق بين استيعاب القواعد واستبطانها، والعيش برموز خارجية للمراقبة، فنادرا ما تعاقب هذه الفئة من مستخدمي الطريق من قبل الشرطة بغرامات على عكس سائقي السيارات الذين هم في احتكاك دائم مع شرطة المرور، وعقب إهمال مراقبتهم، تراهم يخالفون القانون بشكل اعتيادي و أمام أعين الشرطة، إلى درجة اعتقادنا في إغفالهم عن وجود قانون لحركة السير، حيث يفضل بعض المشاة المشي قبالة الرصيف وعلى الطريق المعبدة، و في حالات نادرة، تتناول بعض منظمات الوقاية من حوادث السير موضوع هذا الوباء، وتقوم بتنظيم حملات لحث مستخدمي الطريق على احترام القانون، إذ يقف أعضاؤها على الرصيف و ينبهون المشاة عن طريق مكبر الصوت للانضباط عند إشارة المرور، وعبور الطريق من الممرات المخصصة للمشاة، والوقوف عندما يتحول الضوء إلى أحمر بالنسبة لهم.
ونظرا لأن هذه الحملات نادرة ومتفرقة، فإنها لا تترك أي تأثير حقيقي على الثقافة المرورية لدى هذه الطبقة من مستعملي الطريق. إنه لم يتغير شيء حتى الآن، ولازالت المارة على الأقل في المدينة التي أعيش فيها تنهج تطبع المشي على الطريق المعبد كالمعتاد، وحتى إذا استعملت الكاميرات التي يبدو أنها تعمل بشكل جيد وفعال في أوروبا، فلن تجدي نفعا في المغرب، إلا إذا ألبست بزي الفزاعة.
يعتبر رهاب أو فوبيا الجن أيضاً عاملا مهيكلا للنظام الباثولوجي الشعبي للمرض، إذ أن المغاربة حملوا الجن مسؤولية إثارة مجموعة متنوعة من الأمراض على مر التاريخ، و يحدثنا فيستمارك (1926) عن أن المغاربة اعتقدوا في أن جميع الأمراض التي تبدأ ب “بو” توحي إلى أن قبيلة من الجن تتحمل مسؤولية إنباتها، ونسرد بعض الأمثلة في هذا الصدد: اليرقان (بوصفير)، و الحصبة (بوحمرون)، و يعتقد أن سببها قبيلة من الجن تدعى أولاد بن الأحمر، و عرق النسا (بوزلوم )، و الكوليرا (بوكليب)، ومرض القولون العصبي ( بومزوي)، وشلل النوم أو الجاثوم (بوغطاط/بوتليس)، وجذري الماء أو العنقز ( بوشويكة)، وتوتر عضلات الكتف و الرقبة أو شبه شلل حركتها ( بوعنيينج/بوشنينيق).
و عند انتشار وباء الكوليرا في المغرب سنة 1895، اعتقد المغاربة أن جيشا من الجن هاجم البلاد، ووفقا لفستمارك، ميز الناس بين هجوم الجن العنيف و المعتدل، فعندما كان الوباء يأتي عنيفا جدا، يتصور الناس أن الجن قد نصب خيامه داخل أسوار المدينة؛ و عندما تخف حدة المرض، وتصبح الإصابات قليلة، يفترض الناس أن الجن قد أقام مخيمات خارج أسوار المدينة، ووجه سهامه السامة نحو البشر بين الفينة والأخرى .
و قيل لفستمارك في مدينة تطوان، إن أولئك الذين لقوا حتفهم وأخذوا إلى القبور في جنازات جماعية، رافقتهم حشود من الناس على نحو غير عادي، لأنه ساد اعتقاد بأن مراسيم الدفن كانت مناسبة لرماة من الجن لمطاردة أعدائها من البشر، وهكذا تصور الناس أنه، إن لم يجتمعوا أفواجا، فسيمسون عرضة لخطر إطلاق السهام عليهم من قبل قناصة الجن، فاعتبرت الجمهرة بمثابة الدرع الواقي من الإصابة بمرض الكوليرا. إن هذه الممارسة الثقافية تنقل لنا صورة تاريخية قوية عن الضرورة الاجتماعية للتضامن والتكاتف في أوقات الشدة والخطر بين جميع شرائح المجتمع المغربي.
و للتخفيف من الضغوط الاجتماعية الناتجة عن عبء المسؤولية عن سوء سلوك الذات الاجتماعية، تمدد الذهنية الثقافية الشعبية المتشبعة بالإيديولوجية الذكورية اللوم المعنوي إلى الصورة النمطية للمرأة، حيث تتم شيطنة النساء، ليس فقط بصفتهن ساحرات،ومشعوذات ،و كائنات شيطانية، و بائعات جنس ، و قرينات غير جديرات بالثقة، بل أيضا بوصفهن ناقلات لأمراض جنسية. وتتمثلن اجتماعيا كحاويات لأمراض تناسلية، ومصادر للعدوى و تلويث الذكور، وهذا موقف شوفيني مستوحى من التراث الثقافي الأبيسي في المغرب . و يطرح، مانهارت والديالمي و ريان، و كارولين ومهجور الموضوع على الشكل التالي:
إن مصطلح ” برد” [المرتبط بالأمراض التناسلية] يمثل أحيانا نسخة مختصرة من “برد ديل العيالات” (برد النساء)، مما يعني أن هذا المرض له جذوره في النساء … بينما يعتقد أن الرجال يمكنهم الإصابة بالبرد بسبب تعرضهم للبرد فقط، و لا يخضع الرجال لاستنتاج مفاده أنهم ناقلوا أمراض أيضاً، إذ أن المقابل “برد الرجال” لا وجود له [في قاموس الأمراض الشعبية] 2000)، ص (1374
ومن الناحية الثقافية، فإن مصطلح “برد النساء” يعبر عن التحيز الاجتماعي ضد المرأة التي تحتل مكانة اجتماعية أدنى في نسيجنا الاجتماعي الذكوري، فهي تعتبر حاملة لأمراض منقولة جنسيا، وبالتالي تضحي كبش فداء أو آخر، يهدد السكان الذكور بالعدوى. و للأسف، استبطنت الكثير من النساء هذا الرأي المنحاز، وقبلن به ضد مصلحتهن
في الواقع، يعتبر كبش الفداء أو الآخر مفهوما متأصلا بعمق في الخطاب المغربي اليومي، إذ يندرج ضمن الافتراضات البديهية التي تشكل التفاعلات الاجتماعية، و يجد العديد من المغاربة أنه من الطبيعي الإلقاء بالتبعة على الآخر من أثار الحوادث في حياتهم، إذ تتشابك في لغتهم فرضيات أنهم ضحايا القدر، أو القوى الحاقدة اجتماعيا مثل شر العين (تقواس)، والحسد، و السحر، و سوء الحظ (الزهرماكاينش)، و هذه جميعها تشكل نظرة أسطورية تكمن في لغة الناس اليومية.
دعونا نأخذ، على سبيل المثال، البناء اللغوي للمسؤولية عن الأفعال باللهجة المغربية، خصوصا الأفعال الخاطئة أو الحوادث العرضية، إذ يتم تقديمها دائما في صيغة مبنية للمجهول، و يتم وضع الفاعل في موضع مشارك متضرر للتعتيم عن مسؤوليته عن الفعل. ويقول المغاربة: “شكونلدارليكهادشي/ آشسبابك ؟” مشىعليالطوبيس/ الكار/ التران… بدلا من” زكلت/ فلت/فوتالطوبيس” وصيغ أخرى مشابهة “ضربنيشرجم“، “طاحالكاس“، ” الطاوىسرقت“، “بوحدها،واللهحتىبوحدها…” و إنشاءات لغوية لا تحصى من هذا النوع تعكس عدم وجود الشعور لدى الذات الاجتماعية بالإرادة الإيجابية لتحمل مسؤولية الأخطاء المرتكبة، وتعكس ظهور تطبع (هابتوس) يتجنب مخاطر المجازفة، ويبعد الذات عن كونها ذات إرادة، و مسؤولة عن أخطائها أو أفعالها الشجاعة.
يتم وضع الذات الاجتماعية كمتلق للأحداث التي بدأها الآخرون، والتي هي في حقيقة الأمر أفعال صادرة عن الذات، و يتم تجسيد الأشياء أيضاً، حيث تتمتع بقدرات تمكنها من التأثير في محيطها، وخلاصة القول أن الذهنية الثقافية للمغاربة لا تتمحور حول الأنا الظاهراتية التي يمكن أن تحقق التغيير، إذ تذوب الذات الاجتماعية في هياكل اجتماعية كالجماعة، و ضمير “نحن”، و القبيلة، والأسرة، والبنيات الاجتماعية، و الآخر، والمصير المكتوب، والقوى الغيبية …، وهي جميعها قوى اجتماعية خارجية توجه مسار الشخص وقدره.
في هذا السياق الاجتماعي ذي الهيكلة الضعيفة، تقدم الأكاسير المارابوتية لإنقاذ الطبقات المحرومة من ضغط المساءلة والمحاسبة، عن كونها مسؤولة باستمرار عن خيارات الحياة ومساراتها، و أفضل ترياق لمعالجة ضغط المسؤولية الاجتماعية هو التحرر السحري الذي تقدمه بعض الطقوس الشعبية كممارسة السحر، و طرد الجن، وتطهير الذات عبر رقصات الجذبة والحضرة… وجميعها يمكن أن تعمل على إخفاء القمع و المصائب الناتجة عن تناقضات الرأسمالية وصرفها تماما، كما تفعل بشأن المظالم الناشئة عن الهيمنة التقليدية المحلية.
وكما تتم معالجة العوائق التقليدية عبر الخلاص السحري، فالعوائق (العكس) بشكل عام، ولا سيما الناشئة عن تطبيق الشروط الدقيقة للرأسمالية، يمكن معالجتها بنفس الطريقة في المتخيل الشعبي، حيث تحتفظ الذاكرة المغربية بكرامات لأولياء فجروا المياه من جوف الأرض، وأحضروا الطعام من لا مكان، و انزلوا الشفاء بالأمراض المستعصية، وكسروا قيود الزمان والمكان، كلها معتقدات تعزز الأنظمة الدفاعية لدى الإنسان البسيط، و تساعده على التعامل مع القروح المفتوحة، و الكرامة المهترئة من جراء الاحتكاك اليومي بشتى أنواع فروض الهيمنة الاقتصادية والسياسية، سواء التقليدية منها أم الناشئة عن الرأسمالية.
إن أولئك الذين يعتقدون بأن العين الشريرة، و الجن، والأعمال السحرية لديها القدرة على تدمير حياتهم، لن يلقوا باللوم حين مكابدة المصائب، والشعور بالضيق الاجتماعي على الخيارات الاقتصادية المؤسساتية، وبالتالي قد تعفى الحكومة و السلطات المحلية التي تشتغل تحت ولايتها، من كونها مسؤولة عن إجهاض برامج اقتصادية وسياسية واجتماعية، وإلحاق المزيد من المظالم بالجماهير الاجتماعية المحرومة المنزوية في أسفل الهرم الاجتماعي.
إن العضو الاجتماعي الذي يفشل في وظيفته قد يعزو فشله إلى الزملاء، أو الأقارب، أو الجيران، أو الحظ السيئ، أو الحسد، وبالتالي يغرق في عالم من الرجم بالغيب، وحيازة السحر، في حين تصير الحكومات والسياسات الهيكلية بريئة من أي مساءلة، وتغادر لحالها بدون محاسب ولا رقيب .
ومن دواعي السخرية أن نسأل كيف يمكننا أن نحمل الحكومات مسؤولية الاختيارات الكبرى الخاطئة ونحاسبها عليها، إذا كنا نحن لا نجرؤ كأفراد على أن نحمل أنفسنا مسؤولية أفعالنا الصغرى الخاطئة ؟!
د.محمدمعروف،أستاذ بجامعة شعيب الدكالي– الجديدة
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=15687