ازمور انفو 24 بقلم ذ. محمد معروف
يبدو أن المؤسسات المجتمعية المعاصرة التي تنتج مظاهر العدالة الاجتماعية في المغرب لم تستطع بعد تقليب أو حرث التربة الصخرية للثقافة المارابوتية التي ينهل منها العضو الاجتماعي، خاصة أهل القاع، ولا يبدو هناك بَنينة واضحة لهذا الفاعل الاجتماعي لا على مستوى السلوكيات و لا على مستوى التفكير، لأن معظم الجماهير التي تقبع في أسفل الهرم الاجتماعي، لا تزال تأخذ على عاتقها عناء السفر إلى مراقد الأولياء البعيدة، والتوسّل إليهم قصد إنصافهم في حياتهم الاجتماعية ورفع الضرر عنهم ، محققين لهم بذلك حلم/ وهم العدالة. وتٌبين هذه الطقوس المارابوتية التي يقوم بها هؤلاء المتوسلون، من خلال التمسح بالولي وطلب مساندته للحصول على حقوق اجتماعية واقتصادية ، كيف تتصور شريحة واسعة من المجتمع مفهوم العدالة الاجتماعية وتستنبطها ، وكيف يشكل كذلك الخيال الشعبي و الطقوس المرتبطة به هذا المفهوم .
ومن خلال الأبحاث الإثنوغرافية التي قمنا بها في مختلف مناطق دكالة و الأطلس الكبير، توصلنا إلى استنتاج مفاده أن زوار المراقد يستخدمون التعابير و الأنماط الشعبية الخاصة بهم لفهم العدالة و بناء علاقتهم مع الأولياء والنظام السياسي الذي يمثلونه. ونظرا لعدم إحساسهم بوجود العدالة في العالم الاجتماعي، يلتجأ الكثير من المغاربة إلى عالم الأولياء سعيا لتحقيق عدالة أسطورية غيبية بفضل بركة هؤلاء الوسطاء وقوتهم، إذ لا وجود للعدالة في الذهنية الشعبية دون حضور الوسيط. وربما هذا ما يفسر اللجوء المتكرر إلى دوي النفوذ لتحقيق العدالة ولو كان ذلك على حساب المظلومين وأصحاب الحقوق. ويتبين لنا أن هؤلاء الذين تمت بنْيَنتُهم من طرف المؤسسة المارابوتية لا ينظرون إلى العدالة الاجتماعية كجزء من العالم الواقعي الذي ينتمون إليه ، باعتبارها حقا من حقوق الإنسان المكتسبة يجب الكفاح والنضال من أجل تحقيقها، أو بوصفها وثيقة الصلة المبدئية بين الدولة الحاكمة والمواطن، إذ ينبغي أن تكون المؤسسات مسئولة أمام مواطنيها لإقامة العدل. فبدلا من ذلك، يتلاشى المفهوم وينصهر في إطار منظومة تبادل الهدايا المارابوتية، وتصبح العدالة هدية غامضة تمنح من طرف قوة مجهولة تتعلق بالبركة و الأرواح التي تمتلك المعجزات والخوارق لتحقيقها، وهكذا نقترب شيئا ما من المفهوم اللاهوتي للعدالة.
إن البناء الثقافي للعدالة الأسطورية كهدية تقدمها شخصية كاريزمية قد يكون لها تأثيرا كبيرا على نمذجة الخطاطة الثقافية للعدالة و ممارستها في المجتمع ككل، و هذا قد يفضي بنا إلى تكون مجموعات وفئات من المتوسلين و حجاج الأولياء يسبحون في فلك تخييلي يقر بأن العدالة منحة خيرية، وبالتالي فالمتوسل المغربي يركز في طقوسه لطلب العدالة على الامتثال والخضوع والانبطاح بدلا من المواجهة و المقاومة والنضال، وهكذا تتم تبرئة ساحة الدولة و أجهزتها من المساءلة فيما يتعلق بإدارة العدالة ، بل على العكس، قد يسود الاعتقاد بأن العدالة تصنع داخل مراقد القديسين و قصور السلاطين، وكواليس المحاكم، و أجهزة فوقية أخرى، إذ يتم تحويل هذه المؤسسات من قوى خارجية يحتمل أن تكون استغلالية إلى قوى إيجابية تُوكل إليها مهمة السهر على تحقيق العدالة وحمايتها دون مراقبة أو محاسبة.
ورغم وجود دساتير وقوانين ومؤسسات واستراتجيات على أرض الواقع، لا نلمس هناك عملا فعالا لإلزام الدولة أخلاقيا بتحسين الظروف الاجتماعية للفقراء، و هكذا ينخرط هؤلاء في أشكال متعددة من السيطرة الخرافية على المصير، منشغلين بمقاومة بؤس أوضاعهم الاجتماعية، والتخفيف من حدة توترها ليس عن طريق الصراع والمواجهة، بل عن طريق الهروب إلى عالم الخوارق والمعجزات، يلهثون وراء حلول سريعة لتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية. وتتجسد سلطة الولي في الثقافة المارابوتية بقوته في الاستجابة لمجموعة متنوعة من طلبات المتوسلين بدأ من رغبتهم في تخصيب الأرض والنساء إلى لعنة الأعداء و معاقبتهم، وكمثال على تطبيق الأولياء للعدالة الغيبية، يُعتقد أن بعضهم قادر على تسليط لعنته وغضبه غير القابلين للنقض ضد خصومه.
ويقول أحد الباحثين أنه في المجتمعات الأفريقية، يخشى الناس شتائم الشيوخ والمسنين، لأنها هي الأقرب من الأحياء إلى أشباح الأسلاف، كما يوجد هناك متخصصون دينيون، مثل الشامان و الكهنة الذين غالبا ما تعتبر نقمتهم ولعنتهم أكثر فعالية من كل شيء. هذا ما قد يفسر لماذا تستشير الناس “الشرفا”، وتطلب منهم لعنة أعدائهم نيابة عنهم، إذ أن هؤلاء كالشيوخ والكهنة والسحرة، يعتقد أن لهم علاقة وطيدة بأرواح الأجداد، خصوصا وهم ينحدرون من النسب النبوي الشريف.
ونسوق مثال الولي ابن يفو دفين مدينة الغربية في منطقة دكالة، إذ يتفق المعالجون على كون قدرته على الرد على الخصوم قوية وفعالة ، وأنه سلطان عادل بامتياز، وتروى حكايات كثيرة لإقناع الزوار في هذا الصدد، ولهذا الولي حكاية عجيبة حول رسم الحدود بينه وبين الولي مول البركي في نفس المنطقة، ويقول أحد المبحوثين:
استقر بن يفو في منطقة الغربية و قام بحراثة الأرض، لكن مول البركي لم يكن جارا ودودا، إذ بعد وفاة والده، دخل في منازعة بينه وبين بن يفو، ولإنهاء الخلاف بينهم، قام بن يفو في نهاية المطاف باقتراح حل مفاده سباق بين الفارسين ابن يفو ومول البركي بعد صلاة الفجر، و أن يمتطيا جيادهما ويسابقا الريح للوصول إلى نقطة التقاء بينهما ستشكل حدودا فاصلة بين ممتلكات الطرفين، وهكذا رحب مول البركي بالفكرة، وفي اليوم التالي، نهض مول البركي مبكرا، و امتطى جواده دون صلاة الفجر واتجه مسرعا لمقابلة ابن يفو، مما مكنه من كسب مساحة كبيرة من الأرض، لأن بن يفو على النقيض قام بمسابقة عادلة ونزيهة. لقد ركب حصانه بعد القيام بصلاة الفجر في المسجد، وهكذا وصل متأخراً، ولم يستطع تجاوز ( الضايا البيضا (حوالي خمسة كيلومترات من مرقده الآن، ولما تنبه بن يفو لخداع خصمه سلط عليه لعنته قائلا” : لقد تركتني بلا أرض، سأتركك دون نسب” (خلّتني بلا بلاد غادي نخليك بلا ولاد) ، فاستجاب الله لدعائه، ولم يترك مول البركي ذرية من بعده.
و منذ ذلك الحين، و ذرية الولي، خصوصا أحفاد سيدي علي بن يفو شقيقه، تسارع إلى الرد بالشتائم واللعنة مثل جدهم الذي كان يمتلك لسانا حادا) الفم السخون). و لقد لاحظنا خلال إحدى المواسم أن بعض المعالجين البوفيين أقسم بلعنة إحداهن، و هدد بطردها من الضريح حين تبين له أنها تسرق الشمع، فقال لها أنه يرى جدّه كل ليلة في أحلامه وأن “دعوته” غير قابلة للرفض، وهكذا هددها أنه إذا استمرت في مضايقته، سوف يلعنها بالنفي من الضريح. و لما كنا جالسين في المحكمة) محكمة الجن(، جاءت امرأة أخرى تتوسل لأحفاد الولي بلعنة جارتها التي أغوت زوجها. وكانت امرأة من سلالة بن يفو، و قالت للمعالجين “سأحضر لكم الأضحية إذا جعلتموها مجنونة) مسٓريحة (تسيح عارية”! ، فالتفت الطُّلبة إلي بابتسامة قبل أن ينظروا إليها ثانية، وقال لها أحدهم بأن الله سوف ينتقم من جارتها، إن كانت حقا ظالمة لها، وفي تلك اللحظة أخَذنا انطباع أن الجواب في غيابنا، ربما كان أقوى من هذا الجواب. وعلاوة على ذلك، فإن أولاد بن يفو عملوا على مأسسة طقوس اللعنة في ضريح شقيق الولي ابن يفو، سيدي علي الذي اشتهر “بدعاويه” التي لا ترفض.
وتنص العادة أن الزوار داخل الضريح يرفعون دعائهم إلى الولي بصوت خافت، وهذا ينطبق تماما على رفع الشكاوى لأنها لا يجب أن تسمع من طرف الحضور، فهذه محكمة غيبية، و هذه الطقوس تجد لها تبريرا دينيا شعبيا مفاده أن الدعاء في صمت محبذ ومستجاب”، وترى الناس يفعلون الشيء نفسه بالنسبة لشتائمهم وشكاويهم، ومع ذلك، حاولنا أن نسترق السمع إلى ما قاله بعض الزوار، وجاءت امرأة غاضبة جداً ، تطوف بالضريح إلى درجة أنها تكلمت تقريبا بصوت مرتفع حين رفعت شكواها إلى الولي، فبدأت تطوف بالقبر المسيّج، وتقبل أركانه ، وتقول :” يا مولاي عبد العزيز! يا مولاي السلطان! لقد قصدتك والمقصود هو الله! إنني أدعوهم لحكمك! ظلمتني هي وزوجها، أدعو لهم بالشتات وأتمنى لهم الشتات”! ثم قالت مرة أخرى: “يا مولاي عبد العزيز! أريد لها أن تكون مشتتة، لا سيما عبد القادر وزوجته وابنته”.
هنا يلاحظ القارئ مدى دقة المتوسل في دعائه ، إذ أنه لا يعبث بالكلمات ولا بالأسماء، ما يريده فقط هو رفع الظلم الاجتماعي عنه، وحمايته من طرف الولي، و ما يمكننا استنتاجه من هذا المثال هو أن اعتقاد المرأة في قوة الولي بالانتقام لها وتطبيق القصاص، سيخفف حتما من شدة غضبها، و يشكل بديلا مقنعا لها، عكس أن تأخذ بزمام المبادرة بنفسها، وتقوم بمحاولة إلحاق الضرر بخصومها في محاولة لتسوية النزاع. هذا طقس من طقوس التفريغ، إذ يساعد المتوسلين على تطهير أنفسهم من نوازعهم العدوانية والرغبة في الانتقام، لأن إيمانهم بسلطة الولي وانتظارهم لتحكيمه و التحرك بدلا عنهم، يلقي بهم في متاهة الانتظار وتوقع معجزة الانتقام.
ويشتهر أحد أبناء بن يفو، “سيد البداوي فصّال الدعاوي” بأنه قاضي البث في الشكاوى والخلافات بين الناس، و هو مركز يقصده الناس لتأدية القسم، وهو كذلك معروف جيدا بالاستجابة الفورية للعنات المظلوم، و معاقبة شهود الزور، إذ في ضريحه، يؤدي المتوسل الشتائم/ الدّْعاوي بشكل طقوسي . يذهب المظلوم إلى سيدي البداوي قصد الشكوى والاحتجاج، فيقوم بكنسه على الظالمين، وتسمى هذه العملية حرفيا: “بكنس الضريح عليهم” (كاي شطبو عليهم السيد)، ويقوم الشخص المظلوم بقلع معطفه أو الجلباب الذي يرتديه، ويبدأ “بتشطيب” أرضية الضريح ، وشتم الظالم ولعنه، إذ يتمنى له و لبهو بيته أن يصبح خالياً مشطوبا لا حياة فيه، شأنه شأن أرضية الضريح التي قام “بتشطيبها”، و يقول: “لقد ظلمني! أنا أ شكوه إليك! و أرجو أن تٌنزل به مرضا لا علاج له، و أتمنى أن يصاب بشتات لا عودة منه! اختفاء دون ظهور، ” سير راه جدي وسيد البداوي داعين فيك”! . إن سيدي البداوي معروف جيدا بمعاقبة أولئك الذين ينتهكون طوعا عهودهم أو يؤدون يمينا كاذب، ويقول أحد المبحوثين في نفس السياق:
في الماضي، اشتبه أحد القرووين في جاره بأنه سرق منه ديكا، فتوعده بأنه سيشتكيه إلى قائد المنطقة، وكان الناس ذلك الوقت يهابون الوقوف أمام السلطة بشكل كبير، حيث إذ اشتكى احدهم إلى القائد، يقوم هذا الأخير بإرسال مخزني إلى مسكن المتهم، ويتم استدعائه لحضور جلسة المحكمة، وعند حضور المخزني لاستدعائه، جرت العادة بأن المتهم يقوم بإحضار العلف لبغلة المخزني، وإعطاءه زادا ومؤنا قبل المثول أمام محكمة القائد التي قد تقوم بتغريمه هي الأخرى فيما إذا وجد مذنبا، ونظرا لصعوبة هذه المسطرة وإنفاق المال الكثير، كان القرويون يفضلون حل نزاعاتهم في مزارات الأولياء، و في معظم الأحيان بشكل تفاوضي، عادة ما يريح الطرف المشتكي، لذلك عبّر الجار المتهم بسرقة الديك عن استعداده للقسم بدلا من سحبه إلى ردهات المحاكم، فوافق على أداء اليمين في سيدي البداوي، ولما ذهب إلى الضريح وأقسم بأنه بريء، يحكى أن الديك المسروق صاح في معدته.
ويمكن أن نسوق أمثلة كثيرة عن أداء اليمين في الأضرحة، إذ حتى السبعينات من القرن الماضي، سمحت المحكمة للناس بالذهاب إلى الأضرحة لأداء القسم، إذا طلب المدّعي ذلك. و في منطقة دكالة اتجه الناس لأداء القسم في أضرحة معروفة لهذا الغرض كابن يفو أو مولاي عبد الله. و تم إرسال المدعى عليهم من قبل المحكمة الرسمية في خميس زمامرة، و عادة، ما يذهب مفوض قضائي لمعاينة تأدية القسم وإبلاغ المحكمة بذلك. تنبثق أهمية هذه الطقوس من كونها ملزمة للمتهمين إذ يهابون انتقام الولي في حالة الحنث في اليمين. و استخدم مركز مولاي عبد الله أمغار كذلك من قبل الناس لنفس الغرض. وكانت الصيغة التقليدية لأداء القسم على النحو التالي: والله العظيم ما قمت بهذا العمل أو أخذت ذاك الشيء…” ولا بن يفو يخرٌج فيّ!”
و حتى الثمانينات، كان التقليد بأداء القسم علنا في الأضرحة ممارسة شائعة، إذ استخدمت بعض الأحزاب السياسية طقوس أداء القسم ، كإستراتيجية لضمان أصوات الناخبين، خاصة أولئك الذين يقبعون في أسفل الهرم الاجتماعي ويشكلون كثلة ناخبة مهمة، إذ يتم إهداء الناخبين نقودا أو أشياء أخرى كالنعال المطرزة )شرابل( لفائدة النساء قبل الانتخابات، ويتم نقلهن في شاحنات إلى ضريح مولاي عبد الله لأداء القسم الجماعي بالتصويت على مرشحهن، ورغم أن هذا التقليد انقطع عن الممارسة، لازال الناس يحلفون في الأضرحة من أجل حل صراعاتهم مع بعضهم البعض، خاصة أولئك الأزواج حديثي العهد، والذين يعانون من فقدان الثقة.
وحين نؤكد أنه حتى الماضي القريب و المحاكم الرسمية ترسل المتنازعين لأداء القسم في الأضرحة، لا يجب أن يفهم منا أننا نقول أن المحكمة أرسلت الناس عمدا إلى الأضرحة، وذلك لأن المحاكم سمحت لهم فقط بالقسم نزولا عند طلبهم ، و من وجهة نظر قضائية، نحن نتفهم موقف المحكمة، إذ أنها تبحث عن حلول أكثر ملاءمَة ثقافيا لحل النزاعات بين الناس وتسوية نزاعاتهم، لكن خطاطة أداء اليمين في الأضرحة ستغدو عنصرا مؤثرا إيديولوجيا، في حال إن أقرّته المحكمة رسميا، وأضفت عليه الشرعنة، لأن الطابع المؤسساتي للقسم في الأضرحة سيزيد من قوة الولي و اعتقاد الناس في بركته، وبالتالي تصبح المحكمة الرسمية أداة تعزز بركة الولي و تعيد إنتاجها. ويظل السؤال مطروحا عن المخلّفات والبقايا الإيديولوجية لهذه الممارسة التي تم ترسيخها كخطاطة ثقافية لإقامة العدل بين الناس؟ .. كيف يستطيع مغرب العولمة إعادة تشكيل الرواسب الثقافية، وبَنينة العضو الاجتماعي على مفهوم جديد للعدالة بعيد عن مراكز توزيع البركة والسخاء؟ إذ كيف تستطيع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية أن تستقيم في مجتمع اشتد هيامه بتصورات خرافية حول طلب العدالة وتحقيقها، فبدلا من النضال وانتزاع الحقوق، تتكلس العدالة المارابوتية في غياهب المراقد، وتتحول إلى هدايا خيرية؟
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=21142