الطبيعة الانسانية والتربية، هنا الأولاد المتوحشين المشرملين.

2014-12-15T21:38:22+00:00
فسحة الأدبمنوعات
15 ديسمبر 2014آخر تحديث : الإثنين 15 ديسمبر 2014 - 9:38 مساءً
الطبيعة الانسانية والتربية، هنا الأولاد المتوحشين المشرملين.

أزمور أنفو 24: الكاتب عبدالواحد سعادي.

لايولد الإنسان إنسانا ؛ إنها نقطة تجمع عليها اليوم العلوم الإنسانية كلها، فلا شيء من كل ما يؤلف الإنسانية، أي اللغة والفكر والمشاعر والفن وعلم الأخلاق، ولا شيء من كل ماسعت الحضارة آلاف السنين للحصول عليه، قد انتقل إلى جسم المولود الجديد، فعليه أن يكتسبه بالتربية ، وثمة حدث آخر يقر به عامة هو أن الإنسان حيوان ولد “قبل الميعاد” فإن جسمه ابتداء من الروابط العصبية في الدماغ، هو غير تام، هذا يعني انه يتحتم عليه ان يتعلم كل شيء، أي كل مايجعل منه إنسانا : الوقفة المستقيمة واللغة وما إلى ذلك، فلا نستغرب اليوم إن شاهدنا أناسا لا يعرفون كيف يمشون بأدب في الشارع العام، ولا يعرفون كيف ينطقون، وإذا تكلموا لا يميز لغتهم سوى اللفظ الساقط والسفيه، ومادام يتعلم الاستقامة واللغة، فهو متعلق بالآخرين، “الشخصيات الكبرى” ،وإن عدم إنجاز الانسان هو، إلى ذلك، عظمته، ففيما الحيوان هو ما هو عليه منذ ولادته أو يكونه في مابعد، في سرعة، عن طريق نضجه، يتحتم على الولد الانساني، كما يقول “فبشته” أن يصبح ما عليه أن يكون، بل انه يذهب ايضا الى أبعد من ذلك بكثير بالنسبة إلى الحيوان، فإن عدم إنجاز طبيعته يعني مطاوعة بلا حدود.
ذلك يعني ان الطبيعة النسانية تقتصر، في معزل من التربية، على شيء قليل جدا، ولنذكر هنا بحالة الأولاد التوحشين، المشرملين، وخاصة بحال البنيتين اللتين وجدتا في موضع للذئاب في “ميدنابور” بالهند عام 1920 ،فإن هذين الكائنين لم يكن في حوزتهما بعد شيء إنساني، إن “أمالا” عامين و”كامالا” ثمانية أعوام، العاجزتين عن الوقوف قد خبتا على مرافقهما وركبهما، وهما العاجزتان عن الكلام قد عويتا كالذئاب ووثبتا على اللحم النيء ومزقتا الدجاجات الحية، ونرى لدى جميع هؤلاء الاولاد المتوحشين ان حاسة الشم زائدة النمو، والحاجة الجنسية مفقودة تقريبا، انهم يجهلون استعمال الايدي والضحك والبسمة، وانهم لا ينيزون صورة مجسمة من النتوء الحقيقي ولا يعرفون انفسهم في المرآة، الخ..ولقد زعم البعض ان حالات كهذه لا تقيم الدليل على شيء لأن المقصود أناس شديدوا الضعف، بيد أن “ل.ملسن” يجيب، وهو محق في ذلك، بأن تصرف هؤلاء الاولاد فور القبض عليهم ليس تصرف الضعفاء على الاطلاق (فسرعان ما أظهرت البنيتان رغبة شديدة في التعلم).
ومهما يكن من أمر : أكان هؤلاء ضعفاء أم لا، فهم يقيمون الدليل الساطع على أن ولد الانسان لا يربيه الانسان، ولا يعود يملك شيئا انسانا، وان الانسانية ليست وراثة طبيعية بل ميراثا يتحتم على كل انسان ان يستعيده.
وفي نهاية المطاف، وقد توصل الى ذلك عديد من الفلاسفة، نعتبر أن لا وجود لطبيعة إنسانية وان كل انسان ليس ما هو عليه الا بالتربية : هذا موقف السفسطيين كما تبين ذلك اسطورة “بروتاغوراس” الرائعة (افلاطون ،بروتاغوراس، صفحة 320 ومايليها) ،مع الأسف الشديد إدارتنا العامة للأمن الوطني لم تمنح مادة الفلسفة حيزا في تكوين أطرها، كما فعلت بإدماج حقوق الإنسان في برامج تكويناتها)، لقد نشأ “إبيميتيه” جميع الاجناس الحيوانية إذ اعطى كلا منها الأدوات والأسلحة التي قد تحتاج اليها في بيئتها الطبيعية، بيد انه قد نسي، في التقسيم، الانسان ! رأى اخوه “بروميتيه” الانسان عاريا وبدون حذاء واا أغطية ولا أسلحة، فقرر تعويضا عن ذلك، انيمنحه النار، أعني جميع التقنيات، مما يخوله أن يغتصب السلطة الإلهية ويجعله قادرا على استخدام اللغة، بيد انه لا يكفي ان يكون المرء إنسانا صانعا، يتحتم على الانسان ،لكي يعيش، ان يتحد مع غيره، وان زفس يمنح البشر “الحكمة والعدل” اللذين لا وجود للمدينة بدونهما، وإنما ذلك اثباث بأن الانسان مدين بما يخوله ان يعيش كانسان لا الى الطبيعة بل الى التربية، اي الى التقنيات واللغة وعلم الاخلاق ،ولقد استعاد التجريبيون الفكرة القائلة بان الذهن الانساني ليس سوى لوح مصقول وتبعهم، على ركيزة اكثر مادية السلوكيون، ولقد وجد الثقافيون مجددا تلك النظرية الاخرى لدى السفسطيين، اي ان لا اثر لطبيعة انسانية موجودة قبل مختلف الثقافات، وان البشر إذن يختلفون كليا في أذواقهم ومشاعرهم العميقة وفئاتهم الفكرية والاخلاقية تماما كما تختلف التربية التي تلقوها، وقصارى القول انه اذا كان من الضروري ان يتلقى الانسان تربية، فان مضمون التربية هو محتمل كل الاحتمال.

ان تلك النظرية التي تمجد التربية تمجد من هنا بالذات الحرية الانسانية، ولكن، حرية من ؟ أحرية الذي يتلقى التربية أم حرية المربي ؟ألسنا نبرر -في اثباتنا ان طبيعتنا لا توجد الا كلوح مصقول او شريط مسجل للصوت يقتصر كل كماله على عدم ارسال اي صوت لكي يتمكن من التقاط اي صوت -الوجه الاشد إلزاما للتربية ؟ لقد قال “إلفيسيوس” ؛في مقدور التربية كل شيء ؛ ولقد تبنى السلوكيون هذا الاثبات في حماسة مقلقة:
“أعطوني دزينة أولاد في صحة جيدة…وأعدكم بأن آخذ واحدا منهم بلا تبصر فأروضه لكي يصبح أي نوع من الاختصاصيين الذي نريد، أعني طبيبا أو رجل قانون أو فنانا أو بائعا وحتى متسولا أو سارقا، وذلك أيا كانت مواهب أجداده او استعداداتهم او ميولهم اوجنسهم”(وتسن، استشهد به أولمان، صفحة 305).
وهكذا نفترض قابلية التشكل الكلية لدى الانسان وجبروت التربية، فنقتصر هذه الأخيرة على ترويض يؤلف، حتى اذا ما اتخذ هيئة تكييف شرطي بدون ما إكراه، وإجبارا مطلقا يقوم به المربي على الذي يتلقى التربية.
وهل نستطيع الى ذلك أن ننكرعلى الطبيعة الانسانية كل حقيقة ؟ وان “سارتر” نفسه الذي يريد ان يعتبر الانسان “حرية في وضع ما” يعلن حكما يصلح لجميع البشر وللبش. وحدهم : ما من تعليم من شأنه ان يجعل الحيوان يتكلم ويفكر.
وتنطوي الانسانية في عرف “ليفي-ستروس” علة “ثوابت” كالذكاء واللغة وبعض البنيات الاخلاقية الاجتماعية، ولا يعودبدونها لكلمة “انسان” وكلمة “حرية” وكلمة “وضع” ومن معنى، لا شك في ان المقصود هنا ليس طبيعة موجودة قبل الحياة الاجتماعية في استطاعتنا ان نلقاها منفصلة .، بل بنية تظهر في جميع المجتمعات الانسانية ولا تستطيع هذه الاخيرة بدونها ان تكون على صلات في ما بينها، ثمة وجود لإنسانية.
وظن أجل ذلك لة يمكن التربية ان تشجب فكرة الطبيعةالتي تؤلف معاكسها الضروري، وفي استطاعتنا ان نأخذ على مناصري “الطبيعة” و”النمو العفوي” من أرسطو الى ك.رودجرز مرورا بمونتاني وجاك روسو أنهم تمثلوها تمثلا انفعاليا اكثر منه موضوعيا، بيد انه كان الانسان لا يملك سوى تمثلات او تصورات “موضوعية” لهل يظل يملك ركيزة لتفكيره ؟ ومهما يكن من أمر،فإن. فائدة مفهوم الطبيعة، مهما قل وضوحه، تقوم لي إثبات ان كل سيء ليس ممكنا في التربية وان المربي يصطدم بمقاومة لا يستطيع ان ينكرها او ان يهدمها بغير ان يهدم مشروعه بالذات.
تعترضنا هذه المقاومة أولا عن طريق طبيعة الولد السيكولوجية، وهكذا يثبت لنا مؤلفون مختلفون ك “فرويد”و”وولن”و”بياجيه” ان الولد يمرعفويا بمراحل من الناحية الوجدانية كما من الناحية الفكرية وان المربي لا يستطيع ان يهملها او حتى ان يوجزها بلا عواقب وخيمة، ولقد اجاب ج.بياجيه مدرسات فرنسيات سألنه هل من الممكن تعجيل نشأة العمليات المنطقبة اذ اعتبرن ان دور التعليم يقوم في “تعجيل تطور الولد” : “لا أعتقد ان الهدف الذي يتوجب علينا هو ان نعجل، علينا ان زهدف الى استثمار جميع الا مكانات في مرحلة معينة” هذا، والا اتتاد التلميذ نهائيا على اللفظية، ولقد سبق ان نادى جو جاك روسو : التربية السلبية ةلتي ترمي لا الى تعجيل النمو بل الى وقايته.
والطبيعة هي ايضا الطبع الخاص لدى كل ولد، اي طريقته الخاصة في العمل والاحساس، واذا ما جهلنا ذلك واردنا ان ندخل الولد لي قالب مشترك وأجبرناه على ان يكون “عاملا كأخيه” او “فاضلا كجده” أوشكنا ان نثبت همته على الدوام
، لاننا لا نستند الى قوته الخاصة، لا تقوم التربية في تكوين بشر بحسب نموذج مشترك، بل في الافراج في كل انسان عما يحول دون ان يكون ذاته، وفي ان نخوله ان يحقق نفسه بحسب نبوغه الفريد.
إن هذين القتراحين هما إذن حقيقتان معا : فالطبيعة الانسانية هي ما يستلزم ان نربيه، والطبيعة الانسانية لا تقبل اية تربية كانت، انها حاج ، ولكن، ليس في مقدورها ان تمنح المربي قاعدة اكيدة وايجابية، ولقد أجاد “ج.أولمان” في إثباته ان الوقفة المستقيمة نفسها ليست موقفا طبيعيا بل اصلاحا تقر به المجتمعات الانسانية ،وهو يثبت بعكس جاك روسو اننة لا نستطيع “ان نستمد، انطلاقا من الطبيعة، حجة نعترف لها بمهمة تررية الطبيعة”، ان غايات التربية تتعلق باختبار فردي او جماعي ليس من شأن اي علم طبيعة ان يمليه علينا، وان كل ما تعلمنا الطبيعة نو ما لا يجب عمله.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

error: Content is protected !!