جوانب من تاريخ وادي أم الربيع : الوادي وضرورة المحافظة عليه (4)

2017-01-05T08:45:22+00:00
اقلام حرةثرات أزمور
4 يناير 2017آخر تحديث : الخميس 5 يناير 2017 - 8:45 صباحًا
جوانب من تاريخ وادي أم الربيع : الوادي وضرورة المحافظة عليه (4)

rps20170104_230335

ازمور انفو24 بقلم ذ: عبداللطيف عوام
1ـ التمهيد:
في الحلقة الثالثة من هذه الدراسة كنا تساءلنا هل كانت المؤشرات على انقراض سمك الشابل ترجع بالأساس إلى ما بلغته المدينة من الرقي والرفاه؟ حتى أنه لم يعد أمامها إلا أن تهوي إلى الحضيض عقودا بعد الاستنزاف المبالغ فيه،والذيكان له بالغ التأثير على مصير أم الربيع ؟و أدخلنا العوامل المناخية والدور الذي يمكن أن تلعبه في الدفع بالأسماك إلى الانقراض،ثم ما علاقة هذا الانقراض بالمكانة التاريخية للمدينة؟أليس يدفع بها ذلك إلى اختيار مصير آخر ،وما هو؟
2ـ إخلاء المدينة وتخريبها:
بعد إخلاء البرتغال لمدينة أزمور سنة 1541 م ،ذهبوا يستقرون في مدينة مازيغين القريبة بعد أن حصنوها .ورغم ذلك استمروا في الإغارة على أزمور وعلى سكانها،وعلى ضريح مولاي بوشعيب.وكان ذلك يحدث من حين لآخر ،بل إنهم حصلوا على حقوق الصيد في مصب وادي أم الربيع ،ولكن شرط أن لا يغادروا مراكبهم ودون الدخول إلى المدينة، التي كانت واحدة من أهم المدن في القرن العاشر الهجري /16 م .كانت أكبر من آسفي ،وفي حجم مدينة تازة إلا أنها أقل بقليل من العاصمة الإسماعيلية، مكناس.ولابد من الإشارة أن أزمور في سنة 1604 م أضحت مركزا للجهاد ،وذلك بفضل إقامة المجاهد محمد العياشي ،إذ عينه السلطان زيدان السعدي قائدا عليها ،لكن هذا السلطان ارتاب في أمره وهاجمه ،ففر العياشي إلى سلا سنة 1614 م . ودخل السلطان زيدان أزمور من أجل بناء سد يقضي على الحاجز الرملي الذي ـ كان ولا يزال ـ يمنع السفن من دخول نهر أم الربيع،إلا أن واحدا من الجواسيس المشتغلين لحساب إسبانيا توصل بالخبر،فحال ذلك دون بناء السد.
كانت المدينة ذات حيوية تجارية وتاريخية ودينية،إلى أن أصبحت إقليميا أهم قبلة للهجرة القروية ،طبعا بالتشارك مع الجديدة والبيضاء،وكانت لها قوة جاذبة ،لكن هذه القوة سوف تتقلص من المدينة،التي تراجعت إلى المرتبة الثانية بعد الجديدة،بعدما كانت هي الاولى وهي السباقة ،في حين لم تكن مدينة الجديدة قد ظهرت على الشكل الذي سوف تعرف عليه فيما بعد،وكما فصلناالقول ارتبط مصير المدينة بالوادي ،وكانت المدينة بلغت من الثراء والرواج أنها استقلت عن فاس المرينية وعن مراكش الهنتاتية .والملاحظ أن تستقل أزمور عن العاصمة فاسشمالا أو العاصمة مراكش جنوبا ،شيء له أهمية بالغة ،لأنها كانت وصلت إلى قريب من مستواها ،وأضحت تنتج ما هي في حاجة إليه.وهكذا فإن الدينامية التجارية ،بتعبير بوشرب،لأزمور أخذت في التلاشي منذ النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري /17 م وطيلة القرن 18 م :ويذكر مارمول في كتابه إفريقيا أن أزمور أضحت بعد رحيل البرتغال ملجأ للحيوانات الضارية ،واختفى ذكرها في العهود الأولى من تاريخ الدولة العلوية ،وذلك بسبب ما خلفه البرتغال من الخراب ،وأيضا بسبب الوباء العظيم الذي انتشر في المغرب بين سنتي 1678 ـ 1680 .
3ـ إعادة تعمير المدينة:
كان على المخزن أن يعيد ،بعد ذلك ،تعمير مدينة أزمور ،ولهذا الغرض جيء بساكنة من الجنوب المغربي ،من إقليم شتوكة أيت باها وتم توطينها في أزمور والضواحي حيث توجد اليوم منطقة شتوكة ،على بعد خمسة عشر كلم شمال أزمور. وجيء كذلك بالشياظمة من نواحي الصويرة وتوطنت في أزموروالنواحي ،فوق شتوكة وأبعد منها.وهنا اختلطت العناصر العربية بالعناصر البربرية،وذابت مع بعضها بعضا،وتوالت هذه المجموعات المختلطة وتوسعت في أزمور وما يحيط بها.وجلبت الساكنة أيضا من الشاوية وانتشرت في المدينة العتيقة،حيث يمكننا أن نجد بين أسوار هذه المدينة دروبا بأسماء درب شتوكة ،درب الهنتاتي ،درب كناوة،درب المعيزي ،وغيرها من الأسماء التي لا تخفى دلالتها عن الزائر والسائح .هذا بالإضافة إلى أسماء أخرى مثل الدروب التي استقر بها بعض الحرفيين ،وهي لا تزال تحمل أسماء تلك الحرف :ساحة العطارين،زنقة الدرازين ،درب الأمناء، ساحة المريح والتي لها حكايات طويلة مع السلاطين.ناهيك عن الدروب التي توجد بها المساجد أو الزوايا وما إلى ذلك.
ولن تستعيد مدينةأزمور حيويتها إلا بعد قرن ونصف القرن من مغادرة البرتغال لها،ومن خلال المعاناة الشديدة إبان النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري / 17 م والقرن الثاني عشر الهجري /18 م بكامله .وبعدها سيستأنف الوادي نشاطه في تزويد الصيادين كالمعتاد بتلك الخيرات الهائلة ، كما كان في القديم قبل توافد الاحتلال البرتغالي ،وهكذا أخذ الوادي من جديد يتكرم على السكان بأسماك الشابل ،وتصبح الضفة اليسرى مملوءة “بالنوادر” من هذه الأسماك يطرحها الصيادون ويكترى من أجلها الشراحون العاملون على تشريحها وتمليحها .وانتعشت صناعة السمك المملح واشتهرت بها المدينة طيلة القرن الثالث عشر الهجري /19 م . وعادت الأسماك تحمل على ظهور الجمال والدواب ،وتمضي بها القوافل باتجاه المدن الداخلية فقط ،مراكش،فاس ،تادلا…من أجل الاستهلاك المحلي .وبعد هذا الانتعاش حاولت هذه الصناعة السمكية إعادة البلاد إلى ازدهارها.
4ـ بناء القنطرة وتراجع التجارة:
مع إعلان الحماية الفرنسية على مدينة أزمور (1908) على يد الجنرال داماد،سوف تتغير المعطيات ،وخاصة بعد القضاء على مقاومة القايدا لتريعي والتخلص منه للالتحاق بالمقاومة في الأطلس (1912)،وبدأت أزمور تنتعش معماريا وتجاريا ،ولكن الحماية الفرنسية اتخذت من مدينة الجديدة عاصمة للإقليم ،نظرا لتوفرها على الميناء ،ونظرا للمساحة الشاسعة التي يمكن استغلالها معماريا .وقبل بناء القنطرة الأولى على الوادي (ابتدأ البناء سنة 1918)من طرف السلطات الاستعمارية ،كانت أزمور تستقبل الكثير من المسافرين ،يضطرون للتوقف وعبور الوادي بواسطة الزوارق ،أو بواسطة المعدية :LE BAC ،الأمر الذي كان ينعش التجارة المحلية والصناعة التقليدية ،ومن ضمنها سمك الشابل،وبعد ذلك شيدت القنطرة في سنة 1924 وحصل تدشينها عن طريق الرئيس الفرنسي أنذاك الكسندرميللران، فأصبح المسافرون يعبرون مدينة أزمور في الحافلات والسيارات على القنطرة دون عناء التوقف ،مما أدى بالتجارة في أزمور إلى الكساد،وخاصة في قطاعات صيد السمك والحناء والفخار التقليدي .وبذلك توقفت الكثير من المراكب عن العمل وتراجع نشاط الحرفيين في صناعة القوارب وخياطة الشباك..
إن الدينامية التجارية لأزمور أخذت في التلاشي منذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري/ النصف الثاني من 19 م ،وذلك لصالح ميناءي البيضاء شمالا والجديدة جنوبا.وظل الرواج في أزموريتدبدب إلى حدود منتصف القرن العشرين ،مع توالي أفواج الهجرة من البوادي المحيطة ،وأخذت المداخيل تضمحل وباتت بدون استقرار لأن أكثر من نصف الأسر القاطنة أزمور في هذه الفترة كان لها دخل ضعيف لا يتعدى الخمسمائة درهم ،بتقدير اليوم،ويعيش عشرون في المئة من هذه الأسر على مردود الهجرة. !
5ـ القرن العشرون والتغيرات المناخية:
استمر هذا طيلة العقود الثمانية من القرن العشرين ،وإن كان ليس بوتيرة متصاعدة لما شاب مسيرة الوادي من التغيرات ،وترجع بالدرجة الأولى إلى الحواجز الرملية التي تعوق المصب والناتجة عن التفاعلات الطبيعية بين البحر والوادي ،بين البحر والمصب ،بحيث ساهمت في خنقه والتضييق من شساعته ، كما هو الشأن في كثير من المصبات الوديانية ،ذلك أن المصب بمثابة الشريان الذي يضخ عنصر الحياة إلى القلب النابض،إلى الجسد كله ،أي المدينة.وتزامنت تلك التغيرات مع بداية إقامة السدود على الوادي ،ومن بينها سد بنمعاشو (1934)،مما سوف يسارع بارتفاع وتيرة الترملl’ensablement في المصب وفي سائر مجرى الوادي.كل هذا حال دون حركة صعود أسماك الشابل إلى مرتفعات الوادي لوضع بيوضها ،وعمل كذلك على تضاؤل صيد الأسماك بل والحد منه.وكان أن تراجعت الكميات المصطادة تراجعا مهولا في بداية العقد السابع من القرن العشرين.
والسؤال كيف حدث أن هاجرت أسماك الشابل من حضن الوادي؟
وهل انطلقت نحو مناطق أقل ترملا وملوحة حفاظا على النوع ؟أم أن مجموع التغيرات المناخية من حولنا ساهمت في انقراض هذا النوع وأنواع أخرى كانت مشهورة ومتوفرة،جنبا إلى جنب مع الشابل،مثل : العجل ـ البوري ـ السيفرون (في النهر) ـ الساركانة ـ الدرعي ـ الشرغو (في البحر)؟..
ويجب لفت الانتباه أن ما تتعرض له الكرة الأرضية من تغيرات مناخية ،والتي ترجع بالأساس إلى مختلف أنواع التلوثات التي يلحقها الإنسان بالطبيعة،هذا بالإضافة إلى ما تتسبب فيهالحروب والكوارث الصناعية والخروقات القانونية مما ساهم في ارتفاع درجة الحرارة على كوكب الأرض ودفع بالجفاف في كثير من المناطق،وشح الأمطار إلى الواجهة .هذا علاوة على التصاعد المهول في النمو الديموغرافي واستنزاف خيرات الأرض وتقلص المساحات الزراعية وتراجع الغابات والقضاء على العديد من الأنواع من الأشجار ،وانقراض كثير من الأنواع من الحيوانات(الطيور،الزواحف،الدواب…) ، وأيضا انكماش بعض الأنواع من الأسماك ،وأهمها سمك الشابل.
وفي هذه الفترة شهد الوادي بدوره عدة تحولات مورفولوجية مثل ازدياد نسبة الملوحة في الماء ،وتسرب الرمال إلى المصب ،وكان السلطان زيدان حاول إصلاح ذلك في القرن السابع عشر الميلادي ، كما أشرنا أعلاه ،وكادت الرمال تخنق المصب وتردم المجرى.وكان أن تقلص صبيب المياه في الوادي ،وأصبحت مالحة مئة بالمائة،هي التي كانت عذبة منذ نصف قرن ،وكان السكان يعولون عليها في مشربهم ومأكلهم ونظافتهم وسقي مزارعهم وورد دوابهم.وكان “الكرابة” ،حاملو القرب ،يحملونها إلى الناس في بيوتهم ،وذلك حتى بعد أن ظهرت المياه العمومية والإنارة الكهربائية في مدينة أزمور حوالي 1938 ،إذ كان لا يتوفر عليها في هذه الأيام سوى قلة قليلة من السكان.
والحاصل من كل ذلك هو تراجع أسماك الشابل،ثم اختفاؤه ،حيث جرى الانقراض النهائي له في وادي أم الربيع أواخر العقد الثامن من القرن العشرين ،وكان الصيادون بعضهم قضى نحبه وبعضهم شاخ وخلد إلى الراحة يعيش على الذكريات ،ذكريات الشراحين والجذافين والنجارين،وغير ذلك من أدوات الصيد ومن الشباك والقوارب وطقوس البيع والشراء وأدوات الطبخ والأكل واجتماع الأسرة ،مما يعد اليوم للأجيال الحاضرة من الأساطير.إذن فالحديث عن الشابل وما كانت عليه المدينة من التقاليد المرتبطة به،وماكان عليه الوادي من العظمة ،أضحى حديثا عن مجموعة من الأساطير البابلية !!إنه حديث قادم من الكوكب الذي ينتمي إلى الزمن الماضي ،ذلك أن كل شيء أضحى أثرا بعد عين.
وبذلك دخل الوادي في طور الاحتضار ،ومعه المدينة ذات التاريخ العتيد ،وذلك لتتحقق نظرية ابن خلدون في نشأة وتطور وسقوط الحضارات النهرية الكبيرة.وما كان عرفه وادي أم الربيع من الازدهار،قديما وحديثا،شأن الوديان التي اعطت حضارات عريقة قائمة على الاستبداد الشرقي ،الذي هو على وجه الدقة عدم الرضا بما في الطبيعة من الاختلاف.
6-خاتمة:
إن ما آل إليه الحال في الوادي في بداية القرن الواحد والعشرين ،يدعو جميع الباحثين المختصين أن يكثفوا الجهود من أجل إعادة الحياة لهذا النهر.لأن من شاهد كيف تحتفل الأمم المتقدمة بوديانها وجداولها وبحيراتها ،وخاصة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ كوكب الأرض وما يتعلق فيه بندرة المياه ،قد يستغرب ما تتعرض له ودياننا ومنها أم الربيع ،من الاهمال والتهميش بحيث تكون عرضة لأن يلقى فيها كل ما هو مضر وملوث ومسموم ! كما أنها تكون محط النهب العشوائي للرمال ،تحت ستار الإصلاح ومحاولة إزالة الرمال عن المصب ledésensablement،وماهذه الا محاولة محتشمة ومتأخرة في الزمان والمكان ،ولها سلبيات كثيرة ،منها هذه التلال المتراكمة من أحجار الزلط على امتداد الشاطئ الذي كان خاليا منها في السابق ،بالإضافة إلى أنها تساهم في الإخلال بالتوازن في تربة الوديان والمحيطات..
يتضح من كل ما قلناه عن وادي أم الربيع أنه لا زال أمامنا الكثير من العمل ،وليس ما كتبناه سوى نقطة يتيمة من بحر هذا الوادي ،الذي من واجبنا عليه أن نجعله يستعيد حيويته ويسترجع أمجاده،ولن يتأتى ذلك إلا بالمحافظة عليه من الزوال.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

error: Content is protected !!