فن الملحون بمدينة آزمور

2017-01-06T22:52:48+00:00
أزموراقلام حرةثرات أزمور
6 يناير 2017آخر تحديث : الجمعة 6 يناير 2017 - 10:52 مساءً
فن الملحون بمدينة آزمور

إنجاز : د عبد الفتاح الفاقيد
إضاءات أولية:
يعتبر الملحون من أهم عناصر الثقافة المحلية، وأهم سجل تاريخي للمدينة ولرجالاتها ومعالمها الجغرافية والعمرانية، ويحمل بصمات الذات المبدعة المتحررة رغم تكوينها الديني والفقهي، والتي لا تجد أدنى حرجا في تضمين قصائدها مشاعر الحب والشكوى من لواعج هجر الحبيبة وصدودها. لا غرو إذن من اعتبار فن الملحون ذخيرة جامعة لأصناف المعارف، وديوان الذاكرة الأزمورية بكل تنويعاتها الثقافية والحضارية والرمزية والتي لازالت في حاجة ماسة إلى التنقيب والدراسة العلمية، على اعتبار قصائد الملحون إرثا حضاريا ومناط تقاطع وتفاعل بين المغرب والغرب الإسلامي؛ من جهة أولى؛ وبين الثقافة الرسمية والشعبية؛ من جهة ثانية.
1 ـ تاريخ فن الملحون بآزمور:
تُجمع الأبحاث والدراسات التاريخية على اعتبار الملحون من الفنون المستحدثة داخل الثقافة المغربية، إذ نشأ داخل بالمناطق الصحراوية، ويشير ابن خلدون إلى أن الملحون؛ في الأصل؛ من عروض البلد استحدثه أهل الأمصار في المغرب واستحسنه أهل الحواضر والمدن، وقد حدد الدارسون المقصود بأهل الأمصار بمنطقة تافيلالت، ذات النمط الرعوي القائم على الترحال؛ واحتراف تجارة القوافل والبحث عن الأسواق الرائجة، التي وجدتها في الشريط الحضري الممتد بين مكناس؛ وفاس؛ وسلا؛ ومراكش؛ والصويرة؛ وآزمور حاضرة دكالة والتي تحولت مند مطلع القرن التاسع عشر إلى قطب جاذب للقوافل التجارية وللعديد من تجار اليهود وفاس ومراكش(…)، حيث تحقق التلاقح الفكري والمعرفي، تمخضت عته حركة ثقافية ناضجة قي بعدها الفني والجمالي، خاصة في فن الملحون الذي توفرت له الظروف الثقافية والحضارية والطبيعية، التي أكسبت قصيدة الملحون هويتها المتميزة والمستمدة من سماتها البنيوية والأسلوبية وأغراضها ومقاصدها الخاصة، وقد برزت العديد من الأسماء اللامعة سواء على مستوى الإبداع أو الإنتاج والإنشاد أيضا، نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر بنمسعود الحجام؛ التهامي المدغري؛ أحمد برقية؛ موسى برقية؛ المكي ولد الجيلالي الشهير بولد واجو؛ المختار ين المطحن؛ إدريس بن البصير؛ إسماعيل الشوفاني؛ الشيخ العدراوي؛ أمحمد بلمهدي؛ ومحمد بلمهدي؛ واللائحة طويلة، ولا نختلف مع محمد الفاسي حين اعتبر آزمور من المراكز الثقافية القديمة ومن عواصم الملحون، وإن كنا نعتقد جازمين أن ما وصلنا من ملحونيات مجرد غيض من فيض، مقارنة بما غاب من تراث بغياب حفظة القصائد، أو ربما بسبب إقصاء هذا اللون الشعبي من دائرة الاهتمام والتوثيف نظرا للظرفية التاريخية والمعرفية التي هيمنت فيها القصيدة الشعرية الكلاسيكية باعتبارها الأنموذج الأولى بالتداول والتدوين.
بالعودة إلى أصل تسمية الملحون، نسجل اختلافا بين الدارسين حول أصل الاسم. إذ يذهب ابن خلدون إلى اعتبار الملحون من فنون القول الشعبية المستحدثة من لدن أهل الأمصار وسمي عندهم كذلك لأنهم ربما كانوا يُلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على سبيل الصناعة الموسيقية”، المفهوم من منطوق ابن خلدون إذن، أن الملحون من اللحن في قواعد النظم وضوابط الإيقاع الشعري والتي انطلقت مع فن الزجل، وتطورت مع القواعد الجديدة لفن الموشحات بالأندلس. نفس الموقف يتبناه الباحث المغربي “عباس الجيراري”؛ الذي ربط اسم الملحون باللحن أيضا. خلاقا لذلك رفض محمد الفاسي تلك التصورات، ورأى في المقابل أن الملحون مشتق من الألحان والأغاني وليس من اللحن في القواعد الموسيقية، لأن الملحون في الأصل من الفنون الشعرية الغنائية بامتياز.
الجدير بالذكر أن لقصيدة الملحون أسماء عديدة منها: الموهوب؛ السجية؛ الكْلام؛ النظم؛ اللْغَا؛ لكَريحة المشتقة من القريحة.
2 ـ قصائد الملحون بآزمور:
تخضع البنية المعمارية لقصيدة الملحون بآزمور لهندسة ثابتة؛ لا تـشذ عن القواعد المعيارية لهذا الضرب من فنون القول، وتتميز بنية القصيدة بالمستويات التالية: “السَّرَّابة”؛ “المُوَّال”؛ “التمويلة”؛ و”الحَرْبة”. وقد ميز النقاد بين ثلاثة أنواع من القصائد:
أ ـ المُبَيَّتْ : وهي قصائد الملحون الخاضعة للبناء العمودي.
ب ـ مكسور لجناح : ويشمل الملحون القصائد التي كسرت البنية العمودية.
ج ـ السُّوسي : الملحون الفني الذي يعطي الأولوية للمعنى على المبنى العروضي.
إنها في اعتقادنا شبيهة إلى حد ما بالقصائد الكلاسيكية. إذ تتميز بتعدد الأغراض وبمقدمة طللية أو ما يسمى” المْرسم”، والربيعيات التي تعرض وصفا دقيقا لما يعرف بالنزاهة، وهي القصائد الخاصة بليالي الأنس بين ظلال العراصي التي تميزت بها حاصرة آزمور وافتتن بسحرها المغاربة والأجانب على حدّ سواء، أما الهجاء فهو: ” الشّحط”، أو “الدق” أو “الفْضيحة”، وغالبا ما كانت تجري العديد من الملاسنات بين شعراء الملحون بأسلوب مسرحي ساخر؛ يغلب عليه طابع الفرجة والضحك. أما غرض الرثاء عندهم فهو “العزا” أو “العزو”، وقد دأبت قصائد الملحون بآزمورعلى ذكر الأولياء والصالحين والتبرك بالأضرحة والصالحين، وتقديم الوصايا والحكم (النوبة)، الحْكامة أي التقاضي ؛ والزيارة؛ والجفريات وهي القصائد الحاملة لرؤى سياسية ونقدية، كما نجد العديد من الملحونيات الأزمورية غزلية تتناول موضوعات الحب والعشق وتصوير معاناة العاشق من هجر الحبيبة أوصدودها (قصائد بنمسعود الحجام مثلا)، وتشتمل قصائد الغزل على العديد من التيمات المعلومة من مثل: السوالف (الضفائر )؛ الخلخال؛ الدواح؛ الشمعة؛ الحراز (…). وتستمد قصائد الملحون عناصرها الدلالية من المعجم الصوفي لبناء صور شعرية ذات أبعاد إيحائية ورمزية تتشاكل فيها صور المرأة والخمرة ومباهج الحياة، لتعكس رؤيا روحانية وفلسفية تتجاوز حدود الدلالات السطحية للنص.
ويعود الفضل الكبير للشعراء المحليين في إحياء شعر الملاحم، كما هو الأمر مع المكي بن الجيلالي القرشي الذي نظم قصيدتين شهيرتين هما: “الإدريسية” و”البغدادية”. والجدير بالذكر هو قدرة أعلام شعراء الملحون بآزمور على تمثل كل التنويعات، وإنتاج ملحونيات مختلفة تتوزع بين القصائد التقليدية والفنية، والقصائد البدوية والحضرية في نفس الوقت.
3 ـ نماذج من الملحون الآزموري:
تقترن شهرة العديد من شعراء الملحون بآزمور بشهرة قصائدهم التي تحولت إلى تراث جمعي، لذلك ارتأينا تقديم بعض أعلام هذا الفن على سبيل التذكير لا التفصيل:
أ ـ المكي بن القرشي (توفي عام 1352هـ) :
يأتي في مقدمة شيوخ الملحون المحليين، اشتغل خياطا وفقد البصر ليتفرغ بعدها للنظم والإنشاد، أبدع العديد من القصائد من مثل: “العاشقة مولات التاج”؛ و”الطامع في زوجة أخيه”؛ و”خصام الباهيات”؛ و”اليوسفية”؛ قصائد لاقت رواجا كبيرا بساحة جامع الفنا. غير أن أهم قصيدة خلدت اسم الشاعر، قصيدة “الحراز” التي نالت شهرة واسعة في مجالس الملحون وفي الأوساط الفنية أيضا، نظر لتعدد موضوعاتها ومقاصدها التعليمية والتوجيهية الهادفة تحذير السامعين من أحابيل المحتالين والنصابين، فهي وإن تناولت تيمة الحب وصدق المشاعر، إلا أنها تعكس في أبعادها التأويلية والرمزية، العلاقة المتوترة بين الطبيعة الخيرة والطبيعة الشريرة في الإنسان. ومن أهم االحكايات المتضمنة في القصيدة نجد قصة “القصر المسكون”، اقتبسها المكي القرشي من الشاعر المراكشي “الجيلالي امتيرد”، وجعل أحداثها تدور بفضاء آزمور، وأبطالها من السكان المحليين، قصة تعالج العديد من القضايا: منها الطمع، والسحر، والعوالم المفارقة من الجن والعفاريت، ودهاء المرأة، والوفاء (،،،).
ب ـ أحمد برقية (توفي عام 1886):
احمد بن العربي برقية، شاعر مخضرم عاش زمن محمد بن عبد الرحمان وأدرك السلطان الحسن الأول، درس علوم الدين والفقه بالمسجد الكبير بأزمور، ثم أتمها على يد شيوخ فاس بالفرويين، من أهم قصائده “جمهور أولياء آزمور” التي يمكن اعتبارها مونوغرافيا وافية لأهم أعلام التصوف المحليين وأولياء المدينة، تخليدا لذكرهم واعترافا بكراماتهم التي تجاوزت حدود المدينة.
ج ـ إدريس رحمون (من مواليد 1947):
أخد الملحون بداية عن جدته، تم درس قواعده على يد محمد دلال الملقب باسم الحسيكة (الشمعدان) إشارة إلى كون قصائده منارة لطلاب هذا الفن. من أشهر قصائد إدريس رحمون نذكر: “الوصايا” التي جعلها بيوغرافيا لأعلام الملحون المحليين، كما ضمن القصيدة مجموعة حطم ونصائح ودعوة السامعين إلى التوبة، وتذكيرهم بالآخرة وبالحساب والعقاب.
ثاني أشهر قصائده : ” مهد الاجداد”، التي يمكن اعتبارها سجلا لتاريخ المدينة وشهادة حول معمارها ووصفا لجمالية فضائها، مع تضمين شهادات تاريخية في حق هذه الحاضرة العريقة.
4 ـ خلاصات:
حاولنا جهد الإمكان تقديم أشارات عامة حول ظاهرة الملحون بآزمور باعتباره من أهم العناصر المؤسسة للنسق الثقافي المحلي، كما استهدفنا التعريف بأعلام هذا الفن ورواده الذين تمكنوا من مدّ جسور التفاعل بين العديد من التجليات الثقافية، وإبداع قصائد شعرية يمكن اعتبارها وثائق وسجلات مهمة لإعادة قراءة تاريخ المدينة.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

error: Content is protected !!