في علم الإدارة العامة هنالك مصطلح يتم تداوله كثيراً، علماً وبحثاً، وهو الصراع المهني والسياسي في كل سلطة منتخبة، والتي بدورها تقوم بتقديم الخدمات للمواطنين. هنا في هذا المقال سأدخل الى باحة السلطات المحلية ومن أوسع أبوابها. الصراع بين المهني والسياسي يغزو المجتمع ، وفي سلطاتنا المحلية يحمل طابعاً عائلياً وفئوياً، وينبع أكثر ما ينبع من التاريخ السياسي والثقافي ويأخذ هذا الصراع منحى آخر في فترة الانتخابات بالتحديد.
توتر طبيعي
للرئيس جماعته وللمرشح المقابل جماعته حتى تتكون دائرتان تحت مظلة السلطة المحلية. من هنا وبالأخص وجب القول، إن التوتر قائم بين الذراع المهني والذراع السياسي، وهذا التوتر طبيعي لحراك مجتمعي ولا بد منه في محور الانتخابات، ولكنه مستمر في ظل حراك شعبي قائم قبل الانتخابات وما بعدها. أشد ما يقلق أن هذا الصراع تحول من فترة ما قبل الانتخابات الى فترة الانتخابات وما بعدها، بمعنى أنه ليس مقصوراً على طبيعة قواعد اللعبة الانتخابية بل أخذ أبعاده من المبنى التنظيمي لكل سلطة محلية في البلاد. لا يخفى على أحد أن كل رئيس من سلطاتنا المحلية قام أو يقوم بتصفية حسابات مع خصومه السياسيين منها الشخصي ومنها المهني، فهنالك ما هو شرعي وقانوني ويعتمد على خروقات وتجاوزات في داخل حرم السلطة، وهنالك ما هو غير شرعي ويعتمد على انتماءات شخصية، حزبية وحتى سياسية اذا صح التعبير. في السياق السياسي وليس من باب الحصر، كنت اقول إن المجموعة السياسية أصبحت تؤثر على رئيس السلطة المحلية من الخارج، ولكن إسقاطاتها وصلت الى حد تدخل المجموعة السياسية هي الاخرى في عمل اقسام السلطات المحلية، وهنا نتجت طرق ووسائل سياسية من كلا الطرفين في طريقة تعامل رئيس السلطة المحلية مع اقسام السلطة المحلية، مما يستوجب البحث عن اطر خارجية ومهنية تطرح خطط عمل ذات مصداقية للنهوض بالسلطة المحلية في الجانب المهني.
معيار مهني
حتى اليوم تفتقر سلطاتنا المحلية لعملية تقييم الموظفين والمديرين على اساس المعيار المهني وانما تعتمد وللأسف قضية الولاء او التعاطف مع رئيس السلطة المحلية معيارا لنجاحة او فشله في الاداء المهني، وفي هذه الحالة يفقد رئيس السلطة البعد الشعبي والجماهيري في تواصله مع المواطنين. برأيي الشخصي والمهني يجب ان يتم تعيين طاقم مهني استشاري في كل سلطة محلية لطرح الامور من خلال نظرة مهنية عينية بعيدة كل البعد عن الاعتبارات السياسية والتي تروح وتمتد على مدار خمس سنوات في السلطة. اذا كان توجه رئيس السلطة لمدير قسم على سبيل مثال لمطلب مهني معين، نرى وفي بعض الاقسام إن لم يكن في جميعها، إن التجاوب أو عدم التجاوب لهذا المطلب يكون سياسياً صرف، مما يرسخ عملية تهميش او تضليل جزء من المواطنين. وفي هذه الحالة يأخذ الصراع المهني والسياسي تقطباً وتعاملاً شخصياً مع الامور مما يؤدي بالمواطن العادي للضياع.
نظريات الإدارة والقيادة
لا شك أن نظريات الادارة والقيادة اثرت في كيفية التعامل مع الصراع المهني والسياسي في السلطة المحلية، وانا احد الاشخاص الذين يؤمنون أن رئيس السلطة المحلية عليه أن يكون قيادياً ناجحاً وليس بالضرورة ادارياً ناجحاً، فمفهوم القيادة جماعي، فيما أن مفهوم الادارة فردي مع أن مردوداته وانعكاساته جماعية. هنالك بعض مديري الاقسام الذين لا يعون هذا الامر او يتجاهلونه أو يجهلونه نتيجة عدم تعمقهم في مفهوم القيادة والتي تتعامل مع مجمل الامور بشكل متكامل، والنتيجة تكون خسارة ثقة المواطن وخسارة الرئيس في آن معاً. في حين أن الإداري الناجح عليه أن يكون قيادياً في مفهوم منح الخدمات وهو مفهوم جماعي، لا تستطيع أن تكون بأي شكل من الأشكال ادارياً ناجحاً اذا لم تكسب ثقة المواطنين، وهنالك وسائل عديدة لقياس ذلك ومنها نماذج لاستطلاع الرأي تقوم السلطة بتعميمها على المواطنين لفحص مدى ثقتهم بهذا الجهاز او ذاك. على كل رئيس سلطة محلية أن يعين طاقماً استشارياً ومهنياً في العديد من المجالات، مع أن هذا التعيين سياسي إلا أنه لا يبعد الطابع المهني عنه. وظيفة هذا الطاقم العمل على مسح الاحتياجات وفق خطة سنوية تعرض على رئيس البلدية ويتم المصادقة عليها في المجلس البلدي مما يجعل هذا الصراع بين المهني والسياسي صراعاً اقل حدة.
إدعاءات وطروحات سياسية
كما هو معروف، رئيس السلطة المحلية ليس ملماً في جميع المجالات إلا أن باستطاعته أن يبني تصوراً ورؤيا في كل المجالات وهذا التصور يمكن أن يتم بناءه من قبل طاقم استشاري مهني متعدد المجالات مما يضفي شرعية مهنية لدى رئيس السلطة المحلية تكون بعيدة عن الادعاءات أو الطروحات السياسية في حال وجدت، ومما يقوي الذراع المهني أو البعد المهني لدى سلطة رئيس البلدية السياسية. من هنا يتم فرض أمر واقعي ومهني على مديري الاقسام أو حتى على موظفي السلطة. هذا الترابط أو الانسجام ما بين الطرح المهني والسياسي في السلطة المحلية امر محتم لقيادة السلطة المحلية الى تحقيق انجازاتها المتعددة، وذلك خلافا للطابع الفئوي او الحزبي القائم في سلطاتنا المحلية. لا تستطيع السلطة المحلية النهوض بطواقمها العاملة دون ايجاد معادلة تضمن تليين الصراع السياسي المهني، ومن الجانب الآخر على مديري الاقسام في السلطات المحلية تقع مسؤولية تقوية وتدعيم الجانب المهني ولكن دون اعتبارات سياسية وحزبية فئوية، لأن طرق التعامل البنيوي في السلطة شفافة ومرنة ومكشوفة للمواطنين.
“خدمة كل مواطن”
عالم مفاهيم رئيس السلطة المحلية يختلف تماماً عن عالم مفاهيم مديري الاقسام، إلا أن عالم مفاهيم رئيس السلطة المحلية يبقى اقوى بطبيعة إنتخابه من قبل المواطنين، مما يكسب رئيس السلطة مداً شعبياً لا يمكن أن يحوز عليه أي فرد في التنظيم البلدي، وبالتالي على مدير القسم أن يتجاوب مع تطلعات المواطنين وفقاً لمبدأ “خدمة كل مواطن”. اذا كان الصراع السياسي والمهني قائم في السلطة المحلية بذاتها يمكن أن ينتقل الى خارج الدائرة مما سيعيق على المواطنين قضية تقبل هذه الخدمات. من هنا أصل الى نتيجة أنه يمكن أن يكون الأداء مهنيا بامتياز إلا أن نتيجته تكون سياسية، حزبية وفئوية بامتياز، هذا ما نلمحه عند طرح إدعاء انا مهني ورئيس السلطة حزبي او سياسي. إذا كان رئيس السلطة المحلية متنبهاً لهذه القواعد يمكن أن يرسخ مفهوما اخر، وهو أن تكون مهنياً بامتياز وشعبيا أو جماعيا بامتياز، مما يؤدي بالتالي بهذا الصراع المهني والسياسي للرضوخ لرغبة الجماهير او لتطلعاتهم. باعتقادي وجود طاقم استشاري مهني لرئيس البلدية هو الطريق الانسب للتجاوب مع تطلعات وآمال المواطنين، لا سيما أننا اليوم نتحدث بمفاهيم عالمية، تكنولوجية تكسر كل القوالب في الماضي. وما أطرحه هنا ليس حكراً للدولة الكبيرة أو المدينة الكبيرة ولكنه يتناسب ويلائم القرية الصغيرة بهدف كسر المعتقدات المبنية على الفئوية والحزبية ذات الطابع السياسي المنفرد، وبالتالي يجب بناء إطار يحتوي هذه الابعاد، وهذا الاطار عليه ان يكون مهنيا بامتياز.
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=550