أزمور أنفو24 المتابعة:ذ مصطفى بن عمور
سأُقدِّم للجواب بمُلحَة مُعبِّرة تَحكي عن شخص به حمقٌ كان يعرج برجله، فلما سأله أحدهم: لماذا تعرج؟
أجاب: لأن ضرسي يؤلمني، أقول: فأيُّ علاقة لآلام الضرس بعرج الرجل؟ لذلك علينا أن نُلغي من أذهاننا وعزائمنا فكرة الفطر بسبب أمراض لا تربطها أي علاقة بالطعام والشراب، أما التي لها ارتباط وثيق بذلك، فإنها تُرخِّص أو توجب الإفطار على الصائم؛ مظنَّة أن يَهلِك أو يُشرِف على الهلاك، أو يتسبَّب الصوم في استمرار الضرر أو زيادته؛ لأن الله يريد بنا اليُسْر لا العُسر.
وكل مرض له درجة في سُلَّم الخطورة والضرَر، والذي له حق الجزم في ذلك ليس الفقيه أو المُفتي، بل هو الطبيب الثقة المَعروف بإتقانه وخلوِّه من المصلحة أو العبَث، فإن لم يلجأ إلى الطبيب، فإنه يكون حينئذٍ فقيهَ نفسه، مع العلم أن الله – جل جلاله – لا يجوز عليه الخِداع أو التلاعُب، وهو بكل ضمير أو خفي عالم، أما ما يذكره بعض مُدوِّني الفقه أو ما جاء عن طريق القصاصين بإباحة الفِطر حتى مِن وجع الإصبع أو الجرَب أو ما شابه ذلك مما لا علاقة له بضرورة الطعام والشراب؛ كالذي يُروى عن الرجل الصالح ابن سيرين من أنه افطر لوجع أصاب إصبعه، فهذا ليس من الفقه في شيء؛ بل هو تلاعُب أو تحامُق أو قِلَّة ورَع ودِين لا يليق بذوي الإيمان والألباب من عوامِّ الناس، فما بالك بفقهاء الدين والموقِّعين عن رب العالمين كالشيخ ابن سيرين؟! وهو من ذلك براء، ولكن روايات القصاصين أفسدت على الناس قُدرة التفكير والنقد والتمحيص.
ما حكم من به مرض ليس له علاقة بالصيام ويضطر إلى استعمال أدوية معيَّنة؟
ينبغي بدءًا التأكيد على أن الأدوية نوعان: نوع لا يَستعمِله المريض فمَويًّا؛ مثل الكحل، أو الحقن بأنواعها سواء الوريدية أو العضليَّة، أو ما يقطر في الأذن أو العين أو الأنف لمرض بها، أو يدخل من المُخرجين، أو يدهن به الجلد من مراهم مُداوية أو تجميلية بكل أنواعها، فالأصحُّ أنها لا تُفطِر مُطلقًا، ولم يذكر الله أو رسوله عنها شيئًا، والمَسكوت عنها رحمة وعفوًا لا داعي للتنطُّع أو التورُّع البارد فيها، فأما مَن أفتى بفطر من فعلها، فليس له حُجة من الله ورسوله؛ وإنما هي تَعِلات وقياسات لا تقوم على برهان واضِح أو أدلة مُفحمة، ويعجبني بهذا الصدد قولُ الشيخ ابن تيمية في فتاواه من الجزء 25 حين يقول: والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك؛ فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاصُّ والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرَّمها الله ورسوله في الصيام ويفسد بها الصومُ، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانُه، ولو ذَكَر ذلك لعَلِمه الصحابةُ وبلَّغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم يَنقل أحد من أهل العلم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مُسنَدًا ولا مُرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك، ثم ذكر – رحمه الله – قياسات المخالفين وأعقبها بقوله: وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها، لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة” ا هـ، والتأكيد من عندي، ولعله من المُفيد أن أعيد التذكير بكلمة الشيخ ابن حزم في مُحلاه؛ حيث قال: إنما نهانا الله في الصوم عن الأكل والشرب والجِماع وتعمُّد القيء والمعاصي، وما علمنا أكلاً أو شربًا يكون على دُبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جُرح في البطن أو الرأس، وما نُهينا قطُّ عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله؛ ا هـ.
هذا عن النوع الأول من الأدوية غير الفمَوية، أما الأدوية التي لا بد من دخولها إلى الجوف عن طريق الفم، فهي نوعان كذلك:
نوع أول: وهو مثل الأقراص أو الغبار، فالمسألة هنا مرتبطة بنوع هذا الدواء الداخل عبر الفم، هل هو في معنى الغذاء أم في معنى الدواء، فإن كان غذاءً مُحتويًا على بروتينات وفيتامينات وما ماثلها، فهي تُفطر، وعلى مُتناوِلها القضاءُ إن كان مرضه طارئًا، والفِدية إن كان مُزمِنًا، وأما إن كانت من نوع الدواء الخالص، فلا تُفطر على الأصح؛ لأنها ليست طعامًا أو شرابًا مُغذيًا بالمعنى الذي بيَّنه الله في كتابه أو بالمعنى الذي يُحدِّده علماء الطب والأدوية، وهذا داخل في حيز من قال من العلماء بأن ما ليس بطعام ولا شراب لا يُفطر وإن دخل الجوف من طريق الفم، قال الشيخ ابن قدامة في “المغني”: “وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يُغتَذى به، فأما ما لا يغتذى به، فعامة أهل العلم على أن الفطر لا يَحصل به، وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب” ا هـ، أقول: وهو ليس رأي الحسن بن صالح وحده، وإنما كما هو ملاحظ من كلام ابن قدامة أن هناك مجموعة من أهل العلم معه في هذا الأمر وإن لم يذكرهم، والحقيقة أن الدواء إذا كان غبارًا، فهو في حكم الغبار الترابي الذي لا أحد من العلماء قال بأنه يفطر ما دام الصائم قادرًا على مزجه رويدًا رويدًا بريقِه ثم يَبلعه، وأما إن كان أقراصًا غير فوَّارة، فما هي إلا غبار مكثف ومُنجمِع، فإن استطاع الصائم بلعَها مع ريقِه، وإلا فإنه يدقها لتصير غبارًا ثم يَبتلِعها مع ريقه إن استطاع، هذا إذا لم يكن لذلك مضاعفات على معدته أو ليَترُك استعمالها إلى وقت الإفطار إن لم يكن شديد الحاجة إلى ذلك، فإن لم يستطع بلعَها إلا بالماء، فإنه حينئذ يُفطر ثم يقضي بعد ذلك نظير ما أفطره.
أما النوع الثاني الذي يمر عبر الفم، فهو ما يشبه الرذاذ الذي يستعمله المرضى بضيق التنفس أو غيره، وهو مرض لا يؤثِّر الصوم على صاحبه بضرر أو سوء، فهل باستعماله عبر الفم يجبر الراغب في صيام الشهر المعظم على الفطر فيه، علمًا أنه لا يمكنه قضاؤه في أي وقت ما دام مرضه مزمنًا مُستمرًّا؟ أليس من يتنفس في رمضان أثناء الضباب مُجبَرًا على إدخال قطيرات ماء منتشرة في الهواء؟ أليس من يقوم بطهوِ الطعام بمرغم على تنفُّس بخار الطعام عبر فمه أو أنفه؟ أليس من يطحن أنواع الحبوب مُعرَّضًا لدخول غبارها المُغذي عبر فمه مهما احترَز؟ فهل يُفطِر كل أولئك بسبب ذلك، مع العلم أن مثله مما تعمُّ به البلوى كان يحصل في زمن النبوة وما بعده من الأزمنة المباركة، فما رأينا أو سمعنا أحدًا أوجَب الفِطر على من يقع في ذلك، فلماذا التزيُّد في الحديث عن ذلك، والسؤال عما سكتَ عنه الشارع الرحيم، وبلبلة النفوس بما يؤودها ويؤذيها؟
ولأختم هذه الفقرة بكلمة طيبة للشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – من مجموع فتاواه؛ حيث يقول: “وقال أهل العلم: لو لطخ الإنسان قدميه ووجد طعمه في حلقه، لم يُفطره ذلك؛ لأن ذلك ليس منفَذًا، وعليه فإذا اكتحل أو قطر في عينه أو قطر في أذنه، لا يفطر بذلك ولو وجد طعمه في حلقه، ومثل هذا لو تدهن بدهن للعِلاج أو لغير العلاج فإنه لا يضرُّه، وكذلك لو كان عنده ضيق تنفُّس فاستعمل هذا الغاز الذي يبخُّ في الفم لأجل تسهيل التنفس عليه، فإنه لا يفطر؛ لأن ذلك لا يصل إلى المعدة فليس أكلاً ولا شربًا” ا هـ، وأقول: حتى لو وصل إلى المعدة، فإنه ليس بطعام فلا يأخذ حكمه، ونكتفي بما ذكره الله ورسوله وهو ما يتعلق بالطعام والشراب المعهودَين عند الناس؛ ففي ذلك راحة للعالم والمتعلِّم، والله أعلى وأعلم.
يتبع
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=16939