لماذا لا نجيد فن الصمت، أو لغة الصمت، أو بلاغة الصمت؟
كثيراً ما أواجه نفسي بهذا السؤال… لماذا لا نجيد فن الصمت، أو لغة الصمت، أو بلاغة الصمت؟ أو بالأحرى… لماذا نعتبر كثرة الكلام ّليل حياة، ونعتبر بعض الصمت سعياً نحو الموت؟!!.
يتدافع ذاك السؤال بأطياف شتى على تلالفيف عقولنا تبحث عن إجابة وقتما نرى صياحاً بلا مغزى، أو نقداً بلا معنى، أو حواراً بلا هدف، أو مناظرة بلا مضمون… فأقول في نفسي: لماذا تستهوى دوامات الثرثرة و الجدل العقيم أفئدة كثير منا…رغم أن طرحها مُر، و حصادها شوك شائك… خصومات مقاطعة …بعد بحة في الأصوات… أي أن المحصلة تساوى صفراً، بل وأدنى؟!!.
و بعد طول تأمل و تفكير قلت: كثرة الكلام عجز عن إدراك فضيلة الصمت… رغم أن الصمت ضرورة أخلاقية، و لازمة إجتماعية… و نطرح السؤال كيف؟!!
في رأيي أن الكلام مثل الحركة، و الصمت مثل السكون، و البشر يحتاجون بين الحين و الآخر إلى لحظات توقف و سكون… لترتيب الأفكار، و تنظيم الخطوات، و لملمة شظايا النفس المبعثرة في متاهات الهوى، و البحث عن التافه و المجهول من عرض الدنيا…
و هنا يكون الصمت لحظة تجول و تحول… تجول فيما مضى لمراجعة النفس و محاسبتها، و غربلة المواقف و فرزها، و تصحيح المسار كشأن الأذكياء الذين يتعلمون من سقطاتهم وأخطائهم، ثم يتحولون من الخطأ إلى الصواب، و من الكبوة إلى النهوض و المواصلة، و لا يدرك ذلك إلا العقلاء الذين تساوت عندهم حالة الصمت مع حالة الكلام، أو الحكماء الذين ينقشون بالصمت أروع الكلمات، و يصنعون بالصمت أجمل المواقف.
و حتى تتضح الأمور فإنه يجب الفصل بين صمت يفرضه عقل و فكر، و تمليه حكمة و موازنة، و تحركه مصلحة عامة، و بين صمت يفرضه جهل و جبن و خوف.. فالأول مطلوب و بشدة خاصة عندما تشهد ساحة الكلمة إفراطاً مزعجاً في النقد و التجريح و نثر الشائعات بلا ضمير، و لذا فكثير من منابر الكلمة تحتاج إلى وقفة جادة لوضع أطر مهنية و أخلاقية و قانونية من أجل كلمة هادئة و هادفة و جادة، أما الثاني فمرفوض جملة و تفصيلاً لأنه سلبية و انهزامية و ضعف في الشخصية.
إن الثرثرة بعثرة لما مضى في دروب النسيان أو التناسي، و طمس لما انقضى من مآثر و فضائل و لو كانت مثل الجبال، و حَجْر وحَجْب طويل الأمد على الآتي من الفعل و القول، فالإنسان يخسر خسراناً كبيراً و مبينا إن سبق لسانه عقله و يده فاه، و إن تغلبت شهوة كلامه على فطرة صمته، بل إن المجتمع يخسر إن كَـثُر فيه الضجيج الذي تتوارى بين أنقاضه شاهقة الحق، و تضيع في متاهاته بَيـِّنَةُ الرشد، فلا يتبين الناس الطريق، و لا يهتدي الخلق إلى صواب، لأن الكل يثرثر، فلا مجال للسمع أو للتعقل.
يجب أن نعرف متى يجب أن نتكلم؟، و متى يجب أن نصمت؟، فليس الصياح و العويل دليل حياة، و ليس الرد العشوائي الإنفعالي أسلوب دفاع، ومن حكمة الخالق أن خلق لنا لساناً واحداً و خلق لنا أذنين كي نسمع أكثر مما نتكلم، بل و وضع على جارحة اللسان سدَّين.. أسنان و شفتين، كي لا تخرج الكلمة إلا نقية مؤثرة.
و هنا أتذكر حكمة نطق بها لسان عمر بن عبد العزيز “رضي الله عنه” لما سُئل: متى تحب أن تتكلم؟ قال: أحب أن أتكلم عندما أشتهى الصمت، قيل له و متى تحب أن تصمت؟ قال: أحب أن أصمت عندما أشتهى الكلام، و المغزى من وراء هذه الحكمة رائع للغاية، خاصة عندما يصدر من صاحب أكبر منصب في دوليب الدولة، فالكلام عند اشتهاء الصمت سوف يكون مغلفاً بالحكمة، ممزوجاً بالتأني، محاطاً بالتعقل، و من ثم يمضى نحو أهدافه بلا إثارة، و الصمت عند اشتهاء الكلام وقار و هيبة، و كبح لجماح مفردات متأججة، و من ثم تضييق الخناق على بواعث الشر و مكامن التناحر، و عليه فالصمت على طول الخط سلبية مخيفة، و الكلام على طول الخط مصيبة مزعجة.
إن لكل امرئ في الحياة دور، لو عرف حدوده، وأداه كما يجب… فلن يجد مناسبة للثرثرة و الجدل، لأن العمل يغنى عن الجدل، و لنأخذ الفرد الياباني كنموذج حي يؤكد هذا المفهوم… كلام قليل، و عمل كثير، و إتقان مذهل، و إنتاج مشرف يعبر عن صاحبه أفضل تعبير.
و أخيراً فإن لي وقفات أضعها في نقاط ثلاث:
1 – الصمت الحكيم ليس معناه الرضا عن الأزمات، و لكن معناه التفكر من أجل اختيار أفضل الطرق لعلاجها.
2 – ليس صحيحاً أن يتحدث كل من ملك صوتاً في شؤون العامة، ناهيك عن الصياح و العويل غير المبرر، إنما يجب أن يترك المجال لأولى الأمر.
3 – أن نعمل سوياً في صمت خير ألف مرة من أن نملأ الأرض كلاماً بلا عمل، أو أن يقدح بعضنا بعضاً بحثاً عن مجد شخصي، لا يتحقق إلا من فوق جماجم الآخرين.
فهل علمنا الآن… لماذا يتوجب عليك الصمت حتى يسمعك الناس؟!!.
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=6774