ازمور انفو24:
ختم مؤتمر الكوب 22 جلسته الافتتاحية في مراكش بأداء فرقة الفناير لأغنية “الأمير نظيف” أمام ملك المغرب و قادة دول العالم، و بعد هذا الأداء الذي يبدو لأول وهلة راقيا و متميزا، خصوصا أنه لم يخضع لمجهر التفكيك والتحليل السيميائي والقراءة الإيديولوجية، حققت الأغنية التي تزامن إنجازها مع قمة المناخ نجاحا باهرا، واكتسحت الساحة الإعلامية دون أن يتم افتحاص كلمات الأغنية ودلالتها الثقافية، والقالب السردي الذي اعتمدته، و التصميم الحجاجي الذي تم توظيفه في سياق الأغنية.
و في هذا المقال، نتساءل عن الجهة العالمة التي اختارت هذه الأغنية، فقررت بجرة قلم الترخيص لفرقة الفناير أن تقدم عرضها الغنائي أثناء هذه المناسبة وأمام جمهور وازن من المثقفين والساسة عبر العالم. ما هي المعايير العلمية التي تم اعتمادها في اختيار هذه الأغنية ؟ هل تم اختيارها بناء على إيقاعها الجميل، أم بناء على معجمها و نمطها الحكائي؟ هل كان هذا الاختيار موفقا، أم بمثابة عثرة بالنسبة إلى اللجنة الساهرة على تنظيم المؤتمر؟ و إذا تبين من خلال هذا التحليل أن الاختيار لم يكن موفقا، من سيحاسب يا ترى على هذا الاختيار في النهاية؟ إذا كانت الغاية الأسمى من هذه الأغنية هي توعية الناشئة بأهمية المحافظة على البيئة، هل استطاعت الأغنية بأسلوبها و معجمها أن تقنع ملايين المغاربة بهذا الموضوع؟
هناك ملاحظات عدة حول الأغنية و أدائها المصور في فيديو كليب في مدينة إفران، إذ لماذا اختير أطفال مخيم الكشافة لأداء الأغنية؟ هل هذا له صلة بموضوع الأغنية أم هو صدفة تزامنت مع وجود المجموعة في إفران لتصوير الفيديو كليب، كما صرح بذلك مدير أعمال المجموعة أمين الحناوي لموقع دوزيم الرقمي؟ و لماذا تخلت المجموعة عن هؤلاء الأطفال عند استعراضها للأغنية أمام الملك وضيوفه؟ هل هؤلاء الأطفال على خشبة كوب 22 يمثلون أبناء السواد الأعظم في المجتمع المغربي؟
هذه أسئلة نفتح بها شهية القارئ قبل أن نتطرق للقضايا الشائكة التي تطرحها أغنية “الأمير نظيف”. و نستهل بداية نقاشنا بالبناء السردي للأغنية، حيث أخذت شكل الحكاية الشعبية الخرافية، ذلك لأن شخوصها من الإنسان والحيوان، أو الكائنات الخرافية، هذا بالرغم من أن الموضوع يفرض نموذجا واقعيا تتكون شخوصه من الإنسان، ذلك لأن الاحتباس الحراري الذي تعانيه الطبيعة، هو من صنع بشري ولا علاقة له بأنماط حكائية أسطورية أو حيوانية، هذا مع العلم أن حكاية الحيوان عادة ما تتجاوز نطاق الشخصية الحيوانية وأوصافها المباشرة إلى وظيفتها الرمزية من خلال علاقاتها التقابلية مع المعنى المجازي الذي يستحضره المتلقي لتفسير الوظائف الواردة في الحكاية. و هذا ما يُكسب النص الحكائيّ المفارق للواقع جوهره التخييلي عبر الاستبدال والتخفيّ في تمثيل الخبرة والسلوك الإنساني. هل هذا فعلا ينطبق على حكاية الأمير نظيف؟
إن حكاية الأمير نظيف تبرز تقابلا ثنائيا بين “وحش الغابة” والأمير نظيف، هذا الأخير رمز للشجاعة والبطولة والمروءة، بينما وحش الغابة يتصف بصفات لازمة لا تميزه عن غيره في الحكاية الشعبية، فهو خبيث محتال مغرور طائش شرس غبي وما إلى ذلك، و بهذه النمطية المسطحة تخلو حكاية نظيف من استدلال عقلي، و تكتفي بالسرد الحكائي دون الخوض في التأويلات، و قد يقبلها السامعُ بعاطفته، لكن السؤال المطروح هنا هو: هل يمكن أن تساهم هذه الأغنية في تنمية خيال الطفل المغربي وإثرائه من خلال توظيف مغالطات منطقية و صور سلبية قد تفسد عقائده؟
إذا اعتبرنا الحكاية الشعبية من أهم الوسائل لتعليم الطفل، وتطوير مداركه، حيث تستخدم لتصحيح سلوكه، وتأسيس توازن نفسي لديه، بقدرات الأبطال الخارقة على تحقيق المعجزات، وتجاوز العقبات الصعبة، وطي المسافات الزمنية والمكانية، نتساءل عن مدى مساهمة الصيغة الحجاجية التي تتضمنها أغنية الأمير نظيف في تعليم الطفل المحافظة على البيئة؟ كيف وهي تطمس المظاهر الإنسانية المساهمة في تغير المناخ، وتسند التلوث وإفساد الطبيعة لكائنات حيوانية خرافية دون تفسيرات منطقية، لتنتهي بمغالطات من شأنها تشويه و إتلاف المغزى الحقيقي للأغنية الذي يتجلى في تحسيس الناشئة بأهمية الحفاظ على البيئة؟ تكمن المغالطة المنطقية في اختيار وحش حيواني أو خرافي ليقوم بوظيفة الشرير الحكائية، حيث يدمر الطبيعة و يلوث الماء ويقطع الأشجار، هذا مع العلم أن الشرير في الواقع، والذي يسمع عنه الأطفال من الوسط العائلي ووسائل الإعلام هو الإنسان، أي هو الأمير نظيف وأتباعه، فهم جزء لا يتجزأ من هذا المخطط التدميري للطبيعة، لكن الأغنية تنقل الطفل المتلقي إلى عالم خيالي مقلوب، و لا تبرر كيف يصبح الأمير نظيفا وباقي مجتمعه محافظا على البيئة، وناس المدينة لا علاقة لهم بتدمير الطبيعة، بينما واقع الحياة يصرخ في وجه الأغنية بالأزبال في الشوارع والنفايات في البحار والوديان و حرق الغابات و لائحة تعنيف الطبيعة غير منتهية. لماذا اختارت الأغنية تبرئة الأمير و أتباعه و إلقاء اللوم على مشجب كائن أسطوري لا علاقة له بظاهرة الاحتباس الحراري لا من قريب ولا من بعيد، كيف تتجرأ الأغنية على طمس معالم الجريمة الإنسانية، و البشرية بأكملها أثناء الكوب 22 في قفص الاتهام، لأنها تنتج غازات سامة تدمر النظام المناخي عبر العالم بأسره؟
و تقوم حكاية الأمير نظيف بتشخيص عناصر الطبيعة، حيث تختزلها في كائنات ضعيفة تستغيث بقوة أمير بطل يستطيع هزم ” وحش الغابة” الذي يقوم بدور الشرير، مما يدل على أن الأغنية تتخذ نمطا مستهلكا لحبكة أحداث الحكاية بالرغم من جدّة الموضوع الذي قد يتطلب ابتكارات سردية بنيوية جديدة. إن موضوع الاحتباس الحراري و التغير المناخي يطرح علينا أسئلة نظرية جديدة: كيف سنتعامل مع الفاعلية الإنسانية بعد تأثيرها الجماعي في الطبيعة؟ هل سيظل مفهوم الأنسنة مفهوما تقليديا منحصرا في المفهوم السوسيولوجي المرتبط بالسياسة والثقافة والاقتصاد فقط، أم سيدخل الفاعل الإنساني السياق البيئي كعامل مؤثر، و كيف سيُنظر إليه منهجيا إذن؟ هل سيستمر بنفس المواصفات السوسيولوجية؟
بينما تعمل أغنية الفناير على تشخيص الطبيعة، توصّل الدارسون الحداثييون في الغرب إلى نتائج عكسية تُشيّء الإنسان، باعتباره قوة جيوفيزيائية تؤثر في الطبيعة بسبب انبعاث ملوثات إلى الجو من جراء استهلاكه لأنواع متعددة من طاقة الوقود الأحفوري، و هكذا تتطلب المقاربات السوسيولوجية الجديدة الأخذ بعين الاعتبار التغير المناخي ومناقشة الأنسنة في مستويات متباينة بين التشييء و النظر إلى الإنسان بوصفه قوة طبيعية مؤثرة في المناخ، و اعتباره عضوا اجتماعيا فاعلا في سياق اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي معين. تابعوا معي كيف تتطور النظريات العلمية الحديثة إلى التأمل في الوظيفة التي يقوم بها الإنسان اتجاه بيئته، بينما تسوّق أغانينا أنماطا بالية مبتذلة غير مفكر فيها لأمير و أتباعه يحاربون وحشا حيوانيا أو بالأحرى خرافيا تتهمه مجموعة الفناير بتلويث الطبيعة؟ من سيصدق هذه المغالطة من جيل الانترنيت الذي يقضي جل وقته على الصفحات الاجتماعية يشاهد أفلاما قصيرة وصورا تبرز كيف يقوم الأمير نظيف و أتباعه بتدمير الطبيعة و استنزاف مواردها.
و حين ننتقل لدراسة المعجم، نتساءل عن المتلقي الضمني المضمر في نص الأغنية، هل أغنية “نظيف” تخاطب المغاربة بجميع فئاتهم الاجتماعية على قدم المساواة، أم هي أغنية نخبوية إقصائية تتوجه بخطاب ” النظافة من الإيمان” إلى طبقات اجتماعية معينة؟ و يبدو من خلال المعجم أنها تخاطب متلقي يتقن اللغة الفرنسية و العربية، و هذا النوع الاجتماعي يتمركز بالأساس خاصة في الطبقات الاجتماعية المتوسطة و الراقية، و بهذا المعجم تقصي الأغنية غالبية المجتمع المغربي المعني بالنظافة، و نشير هنا إلى تلك الطبقات الاجتماعية التي تقبع في أسفل الهرم الاجتماعي، حيث تقطن البوادي والقرى و المداشر والأحياء الشعبية باختلاف مناطقها. إن مطلع الأغنية يشكل سدا منيعا بين الطبقات الاجتماعية الميسورة والطبقات الاجتماعية الكادحة، خصوصا لما تستهل الحكاية أحداثها بصيغ نخبوية فئوية متنائية عن دارجة الشعب العميق.
تستهل الأغنية حكايتها برغبة طفولية تبتغي أحد الوالدين قص حكاية، فتقول: “بابا ماما حكي لي حكاية!” هذا معجم يستهدف أطفالا ينتمون إلى أوساط اجتماعية متوسطة أو ميسورة، أما أبناء أهل القاع، فهم غير معنيين بهذا الخطاب، بدليل أن لغتهم الأم لا تشمل هذا المعجم، هذا بغض النظر إلى اللغة الأمازيغية و خصوصياتها في هذا السياق التي ظلت غائبة، وكنا نتمنى أن المتحدث في الأغنية بدلا من أن يقوم بتغيير الشيفرة نحو الفرنسية، كما يفعل جل المغاربة المتماهين مع الخطاب البورجوازي الكولونيالي، أن يحول الشيفرة نحو لغة أم أخرى كالحسانية أو الأمازيغية لينهل من زخم تراث متنوع لازال جله في طي النسيان. و إذا افترضنا أن هذه الأغنية موجهة إلى عامة الشعب، كان من الأجدر استعمال ألفاظ متداولة بين أبناء العامة، إذ في الثقافة الشعبية عادة ما تقوم الأم أو الجدة بسرد الحكاية، أما العنصر الذكري، فهو راوي دخيل على هذا النمط الحكائي، فلو اتبع المتحدث معجما حكائيا شعبيا، لخاطب أطفال القرى و المداشر و المدن بتعابير مثل ” مّي هاه/ حنّا/ جدّا/ دادا/ واللائحة طويلة من الشمال إلى الجنوب… “عاودي لي حجاية،” هذا يعتبر معجم أقرب إلى الأذن الشعبية المغربية من معجم لغة عالمة لا تحيى مع الأسف بنبض الحياة المعيشة في المجتمع.
لقد حان الوقت أن ينكب الباحثون المغاربة على دراسة تراثهم بلغاته الأم، و إلا ستتيه الأجيال الرقمية بين الحضارات التي تحملها لغات أجنبية أخرى دون أن تلتفت إلى ثقافتها المحلية، هل ندخر الدارجة المغربية و الأمازيغية فقط للسب والشتم و التسوق والرقص و “الحيحة”؟ هل هكذا سنحارب الاستلاب والاغتراب الثقافيين؟ لا يعقل أن يهتم نقادنا بشعر صعاليك المشارقة، و يرقصون على نغمات صعاليك المغرب الأقصى دون تفكير انعكاسي يتمحور حول الذات؟
و ما يزيد الطين بلّة، هو أن الأغنية تنتهي على إيقاع العنف، فيتحول الأمير نظيف إلى أمير عنيف يطرد الوحش ويبرحه ضربا، و هذه مفارقة حقوقية أخرى تطرحها الحكاية، إذ كيف تحرض الأغنية على التربية عن طريق الضرب والإيذاء الجسدي في وقت تصرخ فيه حناجر عبر العالم ضد العنف في تربية الناشئة، بل تجرمه. نحن لا ندري كيف استطاعت مجموعة الفناير أن تقف في محفل دولي أمام كاميرات العالم، و تصرخ بصوت عالي بتعنيف من يخالف ضوابط المحافظة على البيئة. كيف سيستقبل الأطفال هذا الخطاب العنيف الذي تتضمنه الأغنية، و الذي يوصي بضرب و تعنيف من يرمي بالأزبال و يلوث البيئة؟ هل هذا هو فعلا الحل الأمثل؟ أين طرق الحوار والإقناع في التواصل التي تحث عليها التربية الحديثة؟ إن تعبير “تابعوا و يضرب”، تعيد إنتاج خطاطة الشيخ والمريد، و بذلك تعارض قيم و مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، و بالتالي لا تليق بمحفل دولي كالكوب 22.
إن هذه الحكاية الخرافية بهذا الشكل تعتبر مادة سيئة مليئة بالمغالطات، و ترتحل بالطفل الصغير إلى عالم مجهول يتناقض مع الواقع، خصوصا لما تبرئ الإنسان من تلويث الطبيعة، و تنسبها إلى كائنات خرافية، و هكذا تبعد الطفل عن معرفة ذاته، و لا تلقنه طرقا سلمية في التعامل مع محيطه، و تختزل حلولا سهلة متهالكة أدبرت مع مرور الزمن، إذ لا يعقل أن نحارب مشكل التلوث و الاحتباس الحراري عن طريق الغوص في المجهول، هذا مشكل عويص يتطلب نضالا مريرا، و التحريض على العنف يعد هروبا من المسؤولية وإلقائها على عاتق الأمير. هذه مغالطة أخرى لم نود الخوض فيها، لأن الحفاظ على البيئة هي مسؤولية الجميع، وبالرغم من إشارات قوية في الأغنية أن هناك اتحاد بين السكان لمواجهة الوحش، ظل الأمير هو البطل الوحيد الذي يهزم الشرير في النهاية، و هذا حل خارق يدفع الأطفال إلى الإيمان بالحلول السحرية و القدرية في تحديد المصير، و حتى لو كان الأمير نظيفا و شجاعا و مدافعا عن الإنسان و الطبيعة، فلقد أفسدت الأغنية صورته في النهاية حين وضعته في وظيفة الحاكم القاسي العنيف الذي يطرد و يعنّف المخطئين، و هل تلويث الطبيعة يستدعي الضرب والتشريد عوض التواصل والحوار؟ كيف و مبدأ العنف أصبح سلوكا مرفوضا أخلاقيا في مجتمع اليوم، حتى و لو صدر عن أمير البلاد والعباد؟
إن هذه الأعطاب التي تعاني منها الأغنية تدفعنا إلى التساؤل حول كيفية تسويق قيم المواطنة إلى الشعب المغربي، هل مفهوم المواطنة قيم ومعتقدات وأفكار تتبنين في لغات دون أخرى؟ كما يلاحظ الجميع، إن أزمة المواطنة تندرج في بوتقتها و انصهارها في ثقافة عالمة لا زالت حبيسة المدارس و وسائل الإعلام والمؤسسات الإدارية، لكن الحياة اليومية و ممارسات رجل الشارع تعتمد لغة دارجة شبه خالية من مثل هذه القيم ، و هكذا تظل قيم المواطنة دعائية أكثر منها قيم مواطنة معيشة، لأنها تفتقد للغة أم تعمل على بنينتها في الذهنية الشعبية.
و في الختام، نلفت الانتباه إلى أن الساحة الفنية في مغرب اليوم في حاجة ماسة إلى نخبة مثقفة تحارب إفساد ذوق المجتمع، إذ لا يعقل أن تنشغل شعب الآداب العربية في الجامعات المغربية بقضايا ثقافية مشرقية، و لا تعير اهتماما نقديا للمنتوج الثقافي المحلي، يبدو أننا نعيش الأزمة الثقافية التي عاشها الغرب في خمسينيات القرن الماضي، و التي أدت إلى ظهور النقد الثقافي بمدارس متعددة من بورمينكهام إلى فرانكفورت، نحن الآن في حاجة ماسة في المغرب لتشكيل جبهة وطنية من المثقفين لحماية الثقافة العضوية للشعب و محاربة الثقافات الشعبية الاستهلاكية المستوردة و الهجينة؟ و من مفارقات التعليم الجامعي المغربي هو غياب شبه تام للمحترفات الجهوية التي تهتم بالشعر والمسرح و أشكال فنية محلية أخرى، محترفات قد تناط بها مسؤولية تحديد ضوابط جودة المنتوج الفني الذي يعرض في الأسواق المحلية.
ذ. محمد معروف، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي
المصدر : https://azemmourinfo24.com/?p=25903