فوبيا الغرب من الإسلام: قصة سيمو وريبيكا كنموذجا

2015-07-27T01:08:33+01:00
اقلام حرةفسحة الأدب
27 يوليو 2015آخر تحديث : الإثنين 27 يوليو 2015 - 1:08 صباحًا
فوبيا الغرب من الإسلام:  قصة سيمو وريبيكا كنموذجا

أزمور أنفو24 المتابعة:د. محمد معروف

لقد أنتجت ثورة الإنترنت هويات وعلاقات اجتماعية مستحدثة، زعزعت صلابة بنيان ما يطلق عليه حاليا “عالم ما بعد الحداثة” الذي انكشف غير متلاحم أو جاهز للتعامل معها، و يبدو أن هذا العالم الاستهلاكي الذي يخضع للسلطة الرأسمالية التي تفرض عليه سيادة التكنولوجيا وسيطرتها، لم يستوعب بعد كيف يمكن للذات الآدمية الاجتماعية، عند اتصالها بالشبكة العنكبوتية، أن تنصهر في أسلاك و موصلات) كابلات) كهربائية، وتنسلخ من هويتها الصلبة لتتبدل وتتلون بشكل حربائي إلى “سيبورج” اجتماعي مشفر يعمل بنظام بيانات بلاستيكية سائلة، وخير نموذج في هذا السياق هو قصة سيمو وريبيكا، إذ نطرح الأسئلة البلاغية التالية: لماذا سافرت ريبيكا إلى المغرب؟ و كيف استطاعت علاقة اجتماعية افتراضية قصيرة لا تتعدى ستة أشهر أو ما يزيد أن تخدر وتمغنط ريبيكا لتضعها على متن طائرة متوجهة من نيويورك إلى الدار البيضاء في رحلة سرية عاجلة إلى المغرب؟ يكمن الجواب عن هذه الأسئلة من خلال افتحاص معجزات التكنولوجيا الجديدة ووسائل تواصلها التي أصبحت تشكل علاقات اجتماعية مبتدعة عابرة للحدود والقارات . ولا يخفى على احد اليوم أن عالم الانترنت يمتلك قوة لا مثيل لها في عالم المؤسسات المنفصل عن الشابكة، إذ يستطيع تدجين الثائر واستنهاض النائم وتجييشه ؛ وبداخله تتبدد وتتبخر الحدود الجغرافية و السياسية والإيديولوجية والاقتصادية بين الأفراد و الأمم والأديان والثقافات، كما يتصدع درع الولاءات المحلية المنفصلة عن الشابكة، و تنهار الأقنعة الاجتماعية، إذ تصبح الذات الاجتماعية مستعدة لفك الارتباط بالواقع وربط علاقات جديدة بقاناعات جديدة، وتجهر ولاءات عابرة للحدود الجيو سياسية، وخير دليل في هذا الصدد تنامي ظاهرة “الجهاد أون لاين”، إذ يتم استقطاب العضو الاجتماعي بدون قيادة وبدون تشكيل اجتماعي، وهنا تكمن قوة التنويم المغناطيسي التي تتمتع بها جاذبية الإنترنيت . لقد أصبح من الضروري تبسيط هذا النوع من الأبحاث الاجتماعية حول التواصل الافتراضي و تبسيط نتائجه لفائدة العضو الاجتماعي العادي في جميع أنحاء العالم، وخصوصا في أمريكا ​​قصد تبديد مخاوف المواطن الأمريكي من مشاجب الغير.
في إطار حديثه إلى الصحافة، تصور الرقيب دان، الناطق باسم شرطة كلينتون، ” سيناريو أسوأ [لريبيكا] بسبب الاضطرابات في العالم الآن “، و تخوف كثيرا من العلاقة الافتراضية القصيرة الغامضة التي جمعت ريبيكا بصديق فيسبوكي من المغرب، كما أضاف:” إن الشرطة لا تعلم إن كان هذا الشخص حقيقيا.” في واقع الأمر، إن التقارير المتأججة والمرتبكة أحيانا التي أصدرتها وسائل الإعلام والشرطة حول قضية اختفاء ريبيكا في المغرب ألهبت مخاوف الولايات المتحدة الكامنة من المشرق الأسطوري، وأيقظت رهاب المواطن العادي من الإسلام وشمال إفريقيا.
وكما يلاحظ متتبع الأحداث، صورت الكثير من التقارير الحدث باعتباره عملية” اختطاف عن بعد”، حيث عنونت بعض التقارير الصحفية مقالاتها على النحو التالي: “مخاوف حول مراهقة في ‘خطر شديد’ بعد سفرها إلى المغرب للقاء صديق فايسبوكي/ ” “فتاة في سن المراهقة من كونيتيكت مفقودة بعد سفرها إلى المغرب للقاء صديق فايسبوكي”، و حينما تقرأ مقالات صحفية أو تشاهد قنوات تلفزيونية أمريكية، أو لقطات فيديو خاصة بهذه القنوات على اليوتوب، تتشكل لديك قناعة أن هناك تكتيكا جديدا من الجهاد ابتكره المقاتلون الإسلاميون في الخارج ، حيث أصابت الولايات المتحدة حالة من الهلع، كما لو كانت مجبرة بشكل اضطراري طارئ على التوصل إلى قوانين جديدة لحماية الحدود من هجومات إرهابية محتملة من هذا القبيل . يبدو أن الشاب المغربي المراهق الملقب ” بسيمو العدالة” وضع أمريكا في حالة تأهب قصوى لاختراعه تكتيكا فيسبوكيا جديدا، قد نطلق عليه اسم “الاختطاف الممغنط”، وهكذا أصبح للمحققين في الولايات المتحدة ملف جديد وجب عليهم التفكير في حل ألغازه.
ما هذا الترويع، و ما هذه الصور النمطية الثقافية حول المسلمين التي روجت لها بعض وسائل الإعلام والسلطات الأمريكية؟ ولماذا تشن حملة إعلامية ضد المغرب في هذا الباب، فقط لأن أحد مواطنيه استجلب” كاورية” داخل البلد؟ آه! لو كان إدوارد سعيد مازال على قيد الحياة، لكتب تتمة لكتابه حول الاستشراق يصف فيه كيف تستيقظ الأسطورة الرهابية الأمريكية النائمة كلما ظهرت إشارات إسلاموية في شمال إفريقيا. لقد وصفت العديد من التقارير الأمريكية المغرب بملفوظ “شمال إفريقيا”، بالرغم من الاختلاف النوعي بين بلدانه. نعم، نحن على المستوى الجغرافي نقع في شمال إفريقيا، لكننا مساحات جغرافية مختلفة، وأنظمة سياسية مختلفة، وثقافات مختلفة، و مجتمعات مختلفة ، ولغات ولهجات مختلفة، و تدين شعبي مختلف، ووجهات نظر ثقافية مختلفة. نحن هويات اجتماعية متميزة حتى داخل مجتمعاتنا، فكيف يمكن أن نمزج إذن في خليط متشابه يساوي بين المجتمعات بالبلدان المتجاورة، ويحذف بها في معجن مستغلق؟

هذا السرد الشمولي يلقي بالمجتمعات الإسلامية في سلة واحدة ، وهكذا يبدو اختزاليا. يجب أن ندرك حقيقة اثنوغرافية مفادها أنه مادام هناك الكثير من المسلمين، هناك العديد من النسخ التطبيقية للإسلام، إذ أن التدين على مستوى الممارسة يظل مرتبطا بالأرضية الثقافية التي نشأ وترعرع في ظلها، ومن طبيعة الحال، لا يمكن لأحد أن ينكر الأنماط والخطاطات الثقافية التي يتقاسمها المسلمون نظرا لتنشئتهم على الإيديولوجيات الدينية نفسها، لكن الثقافة الحية للإسلام بتمظهراتها الإثنوغرافية تظل لازمة للسرير الثقافي موطئ نشأتها . وعموما، فإن التنميط المتزايد للإسلام من قبل الآلة الإعلامية الأمريكية، بوصفه مصدر تهديد لمصالح الولايات المتحدة وأوروبا، ليس سوى فوبيا ثقافية و انعدام الثقة في المسلمين ، وجب على المؤسسات الأمريكية ترويضها من الداخل. و من منظور ثقافي شعبي بالمغرب، ليست هذه الفوبيا الأمريكية سوى هلوسة خرافية هم مدعوون لعلاج بقية السكان منها. و إذا استمرت الأعراض، يجب على الأمريكي السفر مثل ريبيكا إلى المغرب للمشاركة في رقصات الحضرة وتلقي العلاج عبر طقوس طرد الجن، خصوصا ترويض رهاب الجن المسلم، والعودة إلى الوطن معافى، فالصويرة، مثلا، التي اتخذت منها ريبيكا منتجعا، تعتبر مهد الموسيقى الكناوية التي يرقص على ترانيمها مرضى الامتلاك الجني، و يمتثل لأنغامها على سبيل المثال كل من وسطاء الجن ميمون و الجنية ميرا الكناوية آكلة اللحوم النيئة.
و إذا وضعنا البلدان العربية التي تشهد اضطرابات كما تقول الشرطة الأميركية تحت المجهر، يتضح لنا أن هذه الدول تعيش حالة حرب، كما شهدتها دول أوروبا وأمريكا نفسها خلال القرون المنصرمة، وبالتالي، فالظواهر الاجتماعية التي تعيشها هذه البلدان من تطرف ديني وراديكالية إيديولوجية، هي قروح ونوبات ارتدادية ناتجة عن المظالم الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها السكان في ظل أنظمة شمولية استبدادية، وإن كانت بعض الخطابات الرسمية قد سوقت الصراع الأهلي على شكل حرب إيديولوجية. لقد أصبح من المبتذل الآن القول إن الحروب العربية ليست بثورات، بل هي انتفاضات من أجل الخبز والكرامة الإنسانية، لذلك، فوصم المسلمين بقوى الشر الطبيعية و الوراثية، قد يشكل خطرا فعليا على سلامة الأمريكيين الآخرين الذين يعيشون في الدول الإسلامية، لأن عامة الناس قد تعتقد أن الأعراق العربية أو العقيدة المقدسة تتعرض لهجوم من قبل “المشركين/الكفار”، ومن هذا المنطلق، سوف تغذي أمريكا “الوحش” بسذاجة.
و كما تشير إلى ذلك بعض التقارير الإعلامية الأمريكية، فإن مصادر حكومية تحذر الأمريكيين من السفر إلى المغرب، لأنه يعتبر بالمقاييس الاستخبارتية الأمريكية بلدا غير آمن بالنسبة للأمريكيين نظرا لخطر الإرهاب واللصوصية والاحتيال، هذا التعميم في الحقيقة يلحق الضرر بصورة المغرب، كما لو أن ساحة جامع الفنا في مراكش تعج بالنشالين والدجالين، وتظهر صورة المغرب من خلال مثل هذه التحذيرات كمرتع للمحتالين، إذ قد تتصلب هذه الصورة النمطية في المخيلة الشعبية الأمريكية، ثم ينظر إلينا كتكتلات سكانية متناثرة تفتقر إلى أسس أخلاقية وثقافية وآداب اجتماعية تجعلنا قادرين على تنظيم أنفسنا، وضمان سلامة مواطنينا، ناهيك عن ضمان أمن السياح الأمريكيين.
و لا داعي أن نذكر العالم بأن آداب السلوك الاجتماعي المغربي يتجلى على أرض الواقع في كرم الضيافة. إن استقبال عائلة سيمو لريبيكا البهيج اللطيف المؤنس كثير الرماد، منذ لحظة هبوط طائرتها في الدار البيضاء، هو أحسن مثال في سياق هكذا. لقد استقبلت بحفاوة من قبل جميع أفراد الأسرة، ولم تكبل بسلاسل، ولم توضع في حبس انفرادي، ولم تغتصب، ولم تقطع إلى شرائح نقانق، كما قد يتخيل ذلك المواطن الأمريكي من جراء الحملة الإعلامية المحمومة في هذا الصدد. لقد تحول الخطر المزعوم الذي صورته الآلة الإعلامية الأمريكية إلى نزهة ترفيهية على شاطئ الصويرة مع صديق مراهق يقربها سنا، وليس مع”رجل”، كما روج لذلك الإعلام الأمريكي، و مثل هذه الاكتشافات قد تحرر الأمريكيين من وهم الرهاب من الآخر. يبدو أن سلوك سيمو يوجه كذلك رسالة قوية إلى الأميركيين عن شكل التدين الشعبي الذي يعتمده المراهق المغربي .
لقد اشتهر المغاربة على مر التاريخ المعاصر باستضافة الأجانب في بيوتهم، و لكل واحد منا قصة يرويها عن ضيافته لأوروبي أو أمريكي في منزله، وإذا تحدثت عن نفسي، فلا زالت ذاكرتي تؤرخ لرحلات غرائبية و رائعة مع أمريكيين برا وبحرا عندما كنت في سن “العدالة”، ليس هناك أجنبي واحد دعي إلى منزل مغربي ولم يذق من طبق الكسكس، إذ يكتشف الكثير من الضيوف الأجانب في تكوير لقيمات الكسكس تحديا حقيقيا، ويطلبون من المغاربة تعليمهم فن التكوير دون الضغط بالكف . لا يستقبل المغاربة ضيوفهم الأمريكيين بالبنادق والرصاص، كما لمحت إلى ذلك وسائل الإعلام الأمريكي، إلا إذا كان المحققون الأمريكيون يرون في كويرات الكسكس المغربي جيلا جديدا من المتفجرات. فليكن إذن! أنتم تقذفوننا بالقنابل في الشرق الأوسط؛ و نحن نحذفكم بلقيمات الكسكس في المغرب!
نذكركم إن نفعت الذكرى أن القوم البيض الذين يقيمون بين أحضاننا، و هم جيراننا وزملاؤنا في العمل و في قاعات التمارين الرياضية ، يقطنون شققا في مبان يختلط فيها المغاربة بأجناس و أعراق ولغات دخيلة، و يشاركوننا الفضاء العام، و يستفيدون من خدمات الإدارات العمومية، أحيانا بمنحهم الأفضلية على غيرهم من المواطنين المحليين . كيف يمكن لنا أن نميز بين أمريكي وأوروبي حتى يتسنى لنا استهدافهم وقتلهم كما يشير إلى ذلك التحذير الأمريكي؟ كيف يمكننا أن نميز بين الجنسيات؟ من هو البريطاني، ومن هو الروماني، ومن هو الأمريكي؟ نحن نتعامل مع العديد من الجنسيات التي تتحدث اللغة الإنجليزية بشكل جيد، ومن وجهة نظر الثقافة العضوية للشعب، فالمغاربة لا يميزون بين الجنسيات، و يعاملون الأجانب سواسية باعتبارهم غرباء (كور جمع كاوري) . و يبدو أن الإنسان المغربي البسيط يجهل اشتقاق هذه الكلمة، إذ تحمل في طياتها سبا وقذفا في حق الأجانب، لأن الكلمة أطلقت من لدن الأتراك في الجزائر على الأوروبيين، وهي تعني”الخنازير البرية”. و يحسن المغاربة عموما ضيافة “الكور”، أي الأجانب البيض، ويرحبون بهم على الطريقة المغربية، حيث تنبلج حفاوة الاستقبال والتشريف، ويظل “الكاوري” ضيفا متميزا في البيت المغربي ما لم يرتكب مخالفة تخدش حياء العائلة، كالسكر العلني أو البصبصبة الغرامية لنساء الدار. وفي حال ارتكابه لأخطاء من هذا القبيل، قد يئيض ضيفا غير مرغوب فيه. ولن تستغرب عزيزي القارئ، إن قلت لك إن بعض الأجانب زحفوا إلى أركان بعيدة في أماكن ألفناها مأهولة بالمغاربة فقط، كالحمامات “البلدية” مثلا، و هي فضاءات عمومية حميمية خاصة بالذكور، أما الإناث، فيستخدمن حمامات جماعية خاصة بهن . لقد أصبح الحمام المغربي الآن أسلوبا أنيقا بالنسبة للأجانب الذين يحبون الطراز الطبيعي في تقشير الجسم وإزالة الجلد الميت والدهون والأوساخ، ففي الشهر المنصرم، التقيت أمريكيا في الحمام، و طلب مني أن أعطيه كمية بسيطة من الصابون “البلدي ” ليدهن به جسمه قبل تقشيره، فخاطبني بالانجليزية و قال:”أ يمكن أن تعطيني بعض الصابون الأسود؟” التفت بجانبي، ولما لمحت سواد الصابون، أدركت ما قصده “الكاوري”، ما أجمل الترجمة إلى الانجليزية: “الصابون الأسود”، ذلك الصابون الرخيص، لكن الصحي الذي نستخدمه بإسراف على أجسامنا، و بإسراف في المطبخ لإزالة أوساخ أواني الألمنيوم وتلميعها، ونرمي غير مكترثين الباقي في القمامة.
تحذر وزارة الخارجية الأميركية على موقعها في الانترنت الأميركيين من السفر إلى المغرب بحجة “احتمالات العنف الإرهابي ضد المصالح الأمريكية والمواطنين في هذا البلد”، وأيضا “على الزائر الأمريكي أن يحتاط ويكون حذرا من المحتالين .” و عملت عدد من وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية الأمريكية على تكرار هذا التحذير الحكومي خلال غياب ريبيكا وفقدانها المزعوم في المغرب. وكانت الساعة تشير إلى حوالي 02:00 بعد منتصف الليل، حينما بدأت أشاهد الأخبار وأبحث في الإنترنت عن قضية ريبيكا. كنت لوحدي في المنزل نظرا لأن عائلتي دعيت للإفطار مع أقاربي، وكان المكان صامتا، وكنت أشغل مقاطع الفيديو واستمع مرة تلو الأخرى لهذه التحذيرات، والتعميمات والخطابات الباعثة على الخوف التي سوقها مراسلو التلفزيون الأمريكي حول ما يمكن أن يحدث لريبيكا، فشعرت آنذاك بتخدير قوي من جراء هذه الأخبار، وسألت نفسي سؤالا وجوديا: أين أنا ؟ هل ما زلت في المغرب، أم أنني تهت خارج الحدود وشردت إلى أمريكا؟ فرغبت أن أستثبت الأمر، وأن أتأكد أنني لم أتعرض لحملة تنويمية ممغنطة عن بعد كما حصل لريبيكا، وبالتالي تم اختطافي في الاتجاه المعاكس إلى ولاية كونيتيكت. فهرعت إلى نافذتي وأخرجت رأسي لكي انظر إلى الشارع، فوجدت نفسي لازلت هنا لم ابرح مكاني، هو الحي نفسه الذي أسكن فيه وكل شيء يطبعه الهدوء والسكينة كالمعتاد. وأخذت الساعة تطل على الفجر، و كانت الزنقة مهجورة، و لا تسمع سوى عدد قليل من الهمسات و القهقهات الخافتة داخل المنازل، حيث كان بعض الناس لا يزالون مستيقظين، فأغلقت النافذة، وعدت إلى الفراش للنوم . و لما أغمضت عينيّ ، سمعت فجأة انفجارا قويا، هز جدران غرفة النوم، فقفزت من سريري مهرولا وعينياي مغلقتان : هل هي هلوسة قنبلة؟ ماذا حدث؟ آه! يبدو أن التحذيرات الأمريكية على حق، المغرب يتعرض لهجوم إرهابي! البلد ليس آمنا كما اعتقدت، يا إلهي! ركضت إلى النافذة مرة أخرى، وفتحتها مطلا برأسي إلى الخارج، أتخيل كم عدد الضحايا الذين سقطوا اثر الهجوم، كنت أتوقع أن أسمع تدافع الناس والشرطة وسيارات الإسعاف! لكن ما أثار دهشتي هو أن الحي لا زال هادئا، ولازالت أصداء الهمسات والهمهمات تصل أذني من وراء ستائر النوافذ! إذن، ما هو يا ترى ذلك الانفجار؟ إلهي! تذكرت ! إنه عادي! هو صوت المدفع الذي يطلق قذيفة فارغة يعلن من خلالها وقت السحور أو نهاية السحر. نحن في شهر رمضان في المغرب . هكذا تنفست الصعداء، و جلست أفكر في الضغط الذي يتعرض له المواطنون الأميركيون من طرف وسائل الإعلام الغربية، وكم أشفقت عليهم لأنها تبث فيهم رعباً وجوديا من الآخر، وتحول الكثير منهم إلى ضباع ثقافية تحت رحمة نظام الحقيقة الذي تبثه الآلة الإعلامية الأمريكية ، والتي توجهها سياسات اقتصادية وإيديولوجيات ماكروية فوق-تحتية.
يبدو أن الصناعة الثقافية الأمريكية أو الثقافة الجماهيرية تتلاعب بالأعضاء الاجتماعيين، وتجردهم من أي شكل من المقاومة، و حتى إذا انخرط احدهم فيها، تقمص دورا استهلاكيا باعتباره سلعة هو الآخر داخل المنظومة التسويقية، حيث تصبح مقاومته مزيفة. ويبدو أن المواطن الأمريكي العادي يعيش في غيبوبة ثقافية تحجب عنه طبيعة علاقات السلطة والإيديولوجيات التي تتخلل عملية الاستهلاك، إذ يعيش مخدرا لا حول ولا قوة له أمام إغراءات الثقافة التسويقية الرخيصة، و لعله هزم من قبل هذه الثقافة، حيث أنها تلهمهه بالاستهلاك وتثبط عزيمته على الاحتجاج، وتعمل على قوقعته في متاهات الرأسمالية التي يسود فيها الإدمان وتعاطي الأوهام ، والتصويت والاستفتاءات المرتجلة ، و تضخيم المخاوف و التوترات الاجتماعية، وهذه كلها عوامل قد تؤدي إلى التلاعب ” بالسجناء” والرمي بهم في أتون الهلوسة الثقافية.
باختصار، سأروي لريبيكا قصة زيارتي للولايات المتحدة للمشاركة في ندوة أكاديمية في لويزيانا، فحين هبطت في هيوستن، لكي أتوجه على متن رحلة داخلية إلى باتون روج، فوجئت بالهلوسة الأمريكية من الإرهاب في المطار، ليس فقط المطلوب من المسافر قلع حذائه، وحزام سرواله، وغيرها من الملابس الخارجية، و التفتيش الأمني ​للشرطة، ولكن المطلوب منه أيضا الوقوف في طوابير طويلة أمام مكاتب شرطة الحدود لطبع دخوله الرسمي إلى أراضي الولايات المتحدة على جواز سفره . وعلى الرغم من أن الشرطة قد ترفه عليك شيئا ما بقصصها، والتي اعتبرها تكتيكا لاستنطاق المسافرين، يزعجك صوت عال يكرر التحذير نفسه، مفاده أن لا تبتعد عن أمتعتك، و إلا سيتم مصادرتها و إتلافها من طرف عناصر شرطة المطار. عندما ذهبت إلى ركن المطالبة بالأمتعة، والتقطت حقيبتي، توجهت إلى مكاتب التسجيل لأتسلم تذكرة الرحلة الداخلية إلى باتون روج، وكنت اعتقد أن كل شيء منظم في الولايات المتحدة، لكنه لم يكن كذلك ذلك اليوم، وهذا ما أثار استيائي.
يبدو أن الرحلات الجوية الداخلية تشبه الحافلات التي تقل الركاب في المغرب، حيث تقلع طائرة كل ثلاثين دقيقة ، وعندما تمتلئ الطائرة، قد تضيف زيادة اثنين أو ثلاثة من الركاب، ثم تقلع . لسوء الحظ، قيل لي إن آخر طائرة ستقلع إلى باتون نروج امتلأت عن آخرها، ولن أستطيع السفر ذلك اليوم إلى وجهتي، إذ يجب علي أن أبقى في المطار حتى 06:00 صباحا من اليوم التالي، وهذا من شأنه أن يؤخر حضوري إلى الندوة. وقد سمعت سيدة أمريكية مناقشتي مع المشرفة على أنظمة الرحلات، فعرضت علي المساعدة، واقترحت أن نطير سويا إلى نيو أورليانز، وسيكون زوجها في انتظارنا بالمطار، و بعد ذلك سيقلنا بسيارته إلى مطار باتون روج لأخذ أمتعتنا، وبعد ذلك سيوصلونني حتى باب الفندق . وكانت السيدة الأمريكية لطيفة للغاية ووثقت بها . فسار كل شيء كما تم التخطيط له. و أظهرت لي الأسرة الأمريكية نموذج كرم الضيافة الأمريكية، إذ عدت إلى المغرب وأنا احمل صورة تصحيحية عن أن هناك الكثير من الأمريكيين الذين لا يرتهنون بالصور النمطية التي تشيعها وسائل الإعلام، وليس لديهم رهاب من الآخر، ولا يعاملون العرب كإرهابيين .
وأنا واثق يا ريبيكا أن رحلتك القصيرة إلى المغرب، ستخلد في ذاكرتك مغرب الواقع الحي الذي لا علاقة له بمغرب الكارت بوستال السياحي و مغرب الفوطوشوب الإعلامي الأمريكي !
د.محمد معروف، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

error: Content is protected !!