المثقف و مجال الحياة العامة: المتهكم الليبرالي كنموذج للمبدع في المجتمعات الديمقراطية

2015-02-16T09:14:41+00:00
ثقافة و فنونفسحة الأدب
15 فبراير 2015آخر تحديث : الإثنين 16 فبراير 2015 - 9:14 صباحًا
المثقف و مجال الحياة العامة: المتهكم الليبرالي كنموذج للمبدع في المجتمعات الديمقراطية

ا

محمد مفضل* 

يطرح هذا المقال إشكالية موجودة في كل المجتمعات و الثقافات و هي علاقة المجال الخاص للإبداع الذي هو مجال الرغبات و المعتقدات و الأهداف الخاصة  و مجال الحياة العامة الذي هو مجال للتضامن الاجتماعي و الإنساني. نهدف من خلال طرح هذا الموضوع إلى مناقشة تصور الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي لعلاقة المثقف المبدع، في بحثه عن لغة خاصة به و عن الكمال، بالآخرين، و مدى ارتباط هذا التصور بالديمقراطية الليبرالية و قدرة هذا النموذج على تقديم بديل عن نموذج المثقف العضوي المرتبط إيديولوجيا بالماركسية.

يعتبر هابرماس أول المفكرين المعاصرين الذين تناولوا مفهوم “المجال العام” بالدراسة. يفرق هابرماس بين ثلاثة مفاهيم أساسية في وصفه للحياة الاجتماعية،: الدولة و المجال العام و المجتمع. يحدد مفهوم المجال العام في كونه فضاء يتكون فيه الرأي العام في استقلال عن الدولة و يتكون عموما من الجمعيات أو الجماعات المنظمة التي هي تعبير عن إرادة جماعية، كما يشمل هذا المجال وسائل الإعلام، في حين أن المجتمع بالنسبة إليه هو مجال الحياة الخاصة للناس. كما تناول مفكرون آخرون موضوع الحياة الاجتماعية من زوايا مختلفة، حيث تساءلوا عن ما إذا كان النظام الرأسمالي يفرق بين ما هو فردي، نفسي وخاص و ما هو عام، اجتماعي، و سياسي، أي باختصار بين ما هو فني جمالي وما هو سياسي. يتهم فريدريك جيمسن، من منظور ماركسي، النظام الرأسمالي بالتفريق بين المجالات الخطابية وبممارسة تفريق متعسف و باطل بين الفن و السياسة. في المقابل يتهم فرانسوا ليوطار، تماشيا مع موقف المابعد حداثيين من الخطابات الكبرى و رفضهم للشمولية، الرأسمالية بفرض وحدة مونولوجية تلغي الفرق بين الخطابات، و بقضائه على الفردي و الخاص و النفسي. كما قدم  التاريخانيون الجدد [ ستيفن غرينبلات تحديدا] تصورا آخر لعلاقة العام بالخاص في المجتمع الرأسمالي و ذلك بالتأكيد على أن النزوع نحو التمييز بين المجالات الخطابية و الميل لمحو الفرق بينها يتواجدان و يتعايشان في هذا المجتمع. و قد قدم غرينبلات الرئيس رونالد ريغان كنموذج  لهذا هذا التمايز و التداخل بين الفن و السياسة، حيث قدم أدلة نصية على استعمال هذا الرئيس الأمريكي لجمل و عبارات مأخوذة من سيناريوهات الأفلام التي مثل فيها، في خطاباته السياسية.

قدم هذا النقاش أرضية للفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي ليؤسس لتصور جديد من منظور البراغماتية الجديدة لعلاقة المجال الخاص للأفراد و المجال العام الاجتماعي، حيث فرق بينهما و جعل لكل مجال نشاطه و أهدافه الخاصة في كتابه العَرَضية، التهكم و التضامن، الذي صدر سنة 1989. يؤسس رورتي تصوره على مفهوم خاص للغة و الحقيقة و الذات و الطبيعة البشرية، حيث أن اللغة بالنسبة إليه هي وصف و تمثل للعالم و بالتالي فهي التي تتحمل الصحة و الخطأ و ليس العالم الذي نصفه. تبعا لذلك فإننا لا نجد الحقيقة بل نخلقها. كما أن الذات تتوفر على جملة معتقدات وتتكلم لغة لا علم لها بظروف تكونها، يسميها رورتي “اللغة النهائية”. يعتقد رورتي أن ما يخافه الشعراء [يعني بهم المبدعين و الفلاسفة] هو أن يكتشفوا أنهم يشتغلون بلغة ابتدعها آخرون في ظروف خاصة بهم، لذلك يصبح لازما على الشاعر أن يخلق ذاته أي أن يعيد وصف الماضي بلغة خاصة به، تستجيب لظروف ذاته التاريخية و العرضية، ليصبح هو من يتحكم بالماضي و ليس العكس. بما أن العيش في المجتمع يحتم علينا التعامل مع الآخرين و التضامن معهم، فإننا نفعل ذلك، حسب رورتي، ليس لأننا نشترك معهم في خاصية ما مشتركة، بل لأن الآخر “واحد منا”، و هذا يعتبر نفيا لوجود جوهر ثابت إسمه الطبيعة البشرية.

بناء على ما سبق، يعتقد رورتي أن المجتمع الحر و العادل هو الذي يسمح للمواطن أن تكون له حياة خاصة، لا عقلانية وذات بعد جمالي، مادام لا يؤذي الآخرين. و تبقى الحياة العامة، و التي يجب أن يتحقق فيها العدل و التضامن، هي مجال المشاركة و التبادل. لقد كان رورتي صارما في التفريق بين المجال الخاص الذي هو فضاء للخلق الذاتي و الاستقلالية، و المجال العام الذي يُمارس فيه التضامن مع الآخرين، و رفض أن يتم الجمع بينهما لأن الجمع بينهما كالجمع بين نيتشه و ماركس في شخصية واحدة، لأن لغة الأول مشغولة بالخلق الذاتي و الاستقلالية في حين أن لغة الثاني هي لغة ترصد معاناة الآخرين و تذكرنا بفشل المؤسسات وضرورة تحقيق العدل.

يقترح رورتي نموذجا مثاليا للذات التي يمكن أن تحقق الاستقلالية و الخلق الذاتي و تكون في نفس الوقت متضامنة مع الآخر، و هي شخصية “المتهكم الليبرالي”.  متهكم لأنه يشك في لغته النهائية و لا يعتبرها أحسن من لغات الآخرين و يحس بأن اللغة التي يستعملها لها علاقة بسلطة طرف آخر و ليس ذاته. لذلك فهو يعيد وصف لغته النهائية [أي مجمل معتقداته] كلما واجه ظروفا جديدة. تجدر الإشارة إلى أن ترجمة مصطلح  « Irony »بالمعنى الخاص الذي قدمه رورتي بكلمة “تهكم” يعتبر مناسبا مادام أن أحد معاني فعل “هكم” تفيد الهدم [“تهكمت البئر” أي “تهدمت”/لسان العرب]. فالتهكم يفيد الهدم الذي يليه البناء [في النظرية الكلاسيكية حيث يتم هدم المعنى الظاهري للوصول للمعنى الخفي الذي هو المقصود، كما في نظرية رورتي حيث يهدم المتهكم اللغة النهائية ليبني لغة جديدة]. لكن ليكون هذا المتهكم ليبراليا، يجب عليه أن يتضامن مع الآخرين بأن يقدم أعمالا تقوي الإحساس الاجتماعي ضد القسوة و تحد من المعاناة. كما أن على المتهكم الليبرالي توسيع دائرة تعاطفه لتشمل ليس فقط من ينتمون لنفس المجتمع بل كل الإنسانية، و ذلك بتركيزه على المشترك و ليس على الاختلافات.

لم تحض هذه اليوتوبيا الليبرالية لرورتي بالقبول لدى العديد من النقاد، فهناك من اعتبر الجمع بين التهكم و الالتزام شيئا غير ممكن لأن المتهكم سيشك في اللغة العامة للآخرين و سيسعى لإعادة وصفها [أي هدمها] و سيكون مخالفا بذلك لمبدأ الليبرالية الأساسي و هو عدم ممارسة القسوة ضد الآخرين [أي هدم معتقداتهم الأساسية /الذات]. هذا الانتقاد دفع آخرين لاتهام رورتي بكونه محافظا و مدافعا عن الليبرالية مادام يعتبر أن المجال العام لا يتحمل الصراع و الجدل و إعادة الوصف [هذا الأخير الذي مجاله الوحيد هو المجال الخاص].

بغض النظر عن باقي الانتقادات، يمكن أن نقدم تقييما مفاده أن نموذج المتهكم الليبرالي جدير بالتأمل و يقدم صورة ايجابية  عن المبدع كمهدم للُّغات النهائية و للمعتقدات الموروثة. تبقى المؤاخذة الأساسية عن هذا النموذج هي استبعاد رورتي لأي نقاش داخل المجال العام يمارس قسوة ضد الآخرين بتحطيم لغتهم النهائية. نعتقد أن الحاجة لتحرير الناس من الأوهام و المعتقدات الموروثة تصبح ضرورة ملحة في بعض المجتمعات المتخلفة كالعربية مثلا، وتستدعي تدخلا مناسبا للمبدع بإعادة وصفه للغة العامة و تحرير الآخرين من المطلق و الوهمي.

قد يكون هذا التقديم المختزل لنموذج المتهكم الليبرالي دعوة إلى إعادة طرح أسئلة مقلقة تفرض نفسها على المبدع في العالم العربي والمتعلقة بالإبداع وعلاقته بالذات و الآخر، خصوصا بعد انتفاء الشروط التاريخية لنموذج المثقف العضوي و تبني أغلب الناشطين السياسيين و المبدعين للتحول الكانطي الليبرالي والديمقراطي نحو الدفاع عن حقوق الإنسان و الأخلاق. الإجابة عن هذه الأسئلة ذاتها هي التي قد تحدد العلاقة الممكنة بين الإبداع، كخلق للغة خاصة متحررة من سلطة الماضي و الآخر، و التضامن مع الآخرين حسب ما تقتضيه شروط السياق التاريخي الذي نعيش فيه كعرب في زمن العولمة المتناقض و الملتبس.

أستاذ باحث  بجامعة شعيب الدكالي

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

error: Content is protected !!