موجات الهلع الأخلاقي في المغرب: من الإجماع النسبي إلى الاستقطاب الحاد

2015-08-06T07:24:51+01:00
اقلام حرة
5 أغسطس 2015آخر تحديث : الخميس 6 أغسطس 2015 - 7:24 صباحًا
موجات الهلع الأخلاقي في المغرب: من الإجماع النسبي إلى الاستقطاب الحاد

أزمور أنفو24: بقلم ذ محمد مفضل
يتناول هذا المقال بعض الأحداث التي شهدها المغرب مؤخرا و التي أثارت الكثير من النقاش على صفحات الجرائد و في مواقع التواصل الاجتماعي، ويحاول مقاربتها انطلاقا من مفهوم الهلع الأخلاقي و المفاهيم المرتبطة به كآلية للتحليل مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصية التاريخية و السياقية لهذه الأحداث. يهدف المقال إلى وضع موجات الهلع الأخلاقي التي اجتاحت المغرب في إطار الحوار المجتمعي العام و الصراع الإيديولوجي حول السلطة، وإلى إبراز دور وسائل الإعلام الجماهيري و وسائل الإعلام الاجتماعي في تغذية هذا الحوار و أحيانا تأجيج الصراع.
يتم الحديث عن “الهلع الأخلاقي” moral panicعندما يُناقش موضوع ما بحساسية مفرطة و يثير جدلا يؤدي إلى توثر اجتماعي، و يكون أحيانا التوافق غير ممكن خصوصا إذا كان الموضوع يُعتبر من الطابوهات. يُبين ستانلي كوهنStanley Cohen أن الهلع الأخلاقي يحدث في المجتمعات عندما تظهر ظروف أو أحداث أو مجموعة من الأشخاص تشكل تهديدا للقيم أو المصالح المجتمعية. و قد مر المغرب فعلا بعدة فترات من الهلع الأخلاقي حول مواضيع نذكر منها ظهور عبدة الشيطان، اغتصاب الأطفال، الأكل جهارا في رمضان، و غيرها كثير. و كانت وسائل الإعلام تلعب دورا محوريا إما في إثارة الموضوع و قيادة الحملة ضد التهديد المحتمل لقيم المجتمع أو تغذية النقاش و تأجيجه. غير أن الدور قد يتغير بعض الشيء خصوصا عندما يكون الموضوع إشكاليا و لا يحظى بإجماع المجتمع، فيكشف الهلع الأخلاقي –و بالتحديد عندما يمثل الهلع خوف فئة اجتماعية أو كتلة ايديولوجية من فئة أو فئات أخرى – عن استقطاب ايديولوجي حاد بين تيارين يوجدان في موقف عداء مستمر في السياق المغربي، و في معظم الدول العربية، و أعني بهما التيار المحافظ المتشبث بالتقليد و التعاليم الدينية، و التيار العلماني الذي يسعى إلى فصل الشأن الديني عن الحياة العامة و السياسة عموما، ودعم الحريات و الحقوق الفردية.
تتميز فترات الهلع الأخلاقي عموما بظهور قلق عام داخل المجتمع و انتشار خطاب عدائي ضد من يتسببون في إثارة القلق و الخوف في المجتمع بسلوك غير مقبول من طرف الأغلبية، و غاليا ما يكون هناك إجماع حول خطورة الموضوع و كونه يشكل تهديدا لقيم و مصالح المجتمع. لكن في المقابل، يمكن أن تكون هذه الخطورة مبالغ فيها و تم تضخيمها من طرف ما يمكن تسميتهم ب “مقاولي الأخلاق” الذين يبذلون كل الجهد لشيطنة الأفراد أو السلوكيات التي لا تتوافق مع القيم التي يحاولون حمايتها. و غاليا ما يتم تسمية الإفراد الذين تتم شيطنتهم ب “شياطين الإنس”. الملاحظة الأخيرة حول هذه الفترات من الهلع الأخلاقي هي كون هذه الأخيرة سريعة الزوال، أي أنها تدوم لفترة زمنية محدودة و تختفي أو تتوارى في مخزون المواضيع التي تغذي الحوار الاجتماعي.
عرف المغرب في الشهرين الماضيين فترات متلاحقة، و مازالت مستمرة، من الهلع الأخلاقي حول مواضيع تهم جسد المرأة و لباسها و تمثيل الانحراف الجنسي و الخلقي في الإبداع، و التعامل مع الآخر الغير المتماثل مع القيم السائدة. غير أنه تجب الإشارة إلى أن فترات الهلع الأخلاقي تكشف في الحقيقة عن صراع خفي و كامن بين تيارين أساسين في الثقافة والسياسة في المغرب، و تحديدا التيار المحافظ الذي يؤمن بقيم التقليد و بسمو قيم الجماعة على القيم الفردية و على ضرورة التماثل الاجتماعي، و تيار يؤمن أكثر بالقيم والحريات الفردية و بضرورة فصل الدين عن الدولة و الحياة العامة على اعتباره مسألة شخصية.
بدأت الموجة الأولى من الهلع الأخلاقي بعد أن تم نشر مقاطع من فيلم “الزين اللي فيك ” لنبيل عيوش، تُصور جزءا من عالم الدعارة و القوادة بمدينة مراكش. انتشرت المقاطع المُسربة كالنار في الهشيم و توالت التعليقات المستنكرة لهذه الواقعية الفجة التي لا تمت بصلة، حسب معارضي الفيلم، للإبداع و للفن السينمائي. و تمت شيطنة جميع الممثلين الذين تعرضوا لمضايقات عدة. كما أن وزير الإعلام تدخل و منع عرض الفيلم في المغرب على أساس أنه يسيء للمغرب و للمرأة. دافع نبيل عيوش عن فيلمه لكن قدر الشيطنة كان قد حسم الأمر لصالح التيار المحافظ الذي لم ير في الفيلم سوى إساءة للثقافة المغربية و للمرأة و لصورة المغرب. أثارت هذه الموجة من الهلع الأخلاقي نقاشا حول موضوع تَمثُّل الواقع في الإبداع، و تحديدا تمثيل الانحراف و الشذوذ في الأفلام على أساس أنها جزء من الواقع. و تبيَّن بعد فترة بأن كل فريق بقي متمسكا بموقفه تُجاه هذا الموضوع. غير أنه تجدر الإشارة إلى أن التيار المحافظ حسم المسألة و أصبح عيوش و فريقه من شياطين الإنس.
الموجة الثانية من الهلع الأخلاقي تلت مباشرة بعد منع الفيلم و ذلك بعرض الحفل الغنائي لجنيفر لوبيز على شاشة القناة الثانية دوزيم، حيث أثار هذا العرض استنكارا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي و في بعض الصحف بدعوى أن لباس المغنية وفريقها و رقصاتهم مخلة بالآداب بسبب العري الواضح و للإيحاء الجنسي الذي ميز العرض. و قد قام الفريق المدافع عن قيم الحشمة و الأخلاق بمهاجمة قناة دوزيم و مهرجان موازين و المطالبة بإلغاء المهرجان و مساءلة دوزيم عن طريق الهاكا. و ترأس الفريقَ المحافظ رئيسُ الحكومة و وزيرُ الإعلام و قاموا بمراسلة الهاكا في شأن التجاوز الذي قامت به دوزيم. و قد صدر قرار للهاكا يقضي بعدم قبول شكاية رئيس الحكومة لأن الشكاية معيبة من حيث الشكل و لا يحق للهاكا إصدار قرار في الموضوع. تأويل هذا القرار لم يتأخر و رُبط قرار الهاكا المتحدي لرئيس الحكومة بأهمية مهرجان موازين بالنسبة للدولة التي تدعمه بكل الوسائل و بوضعية دوزيم من الناحية السياسية من حيث أنها تمثل التيار المعارض للتيار التقليدي و لها من يحميها في كواليس القرار السياسي.
بعد أن بدأت موجتا الهلع الأخلاقي تتواريان و تفقدان ذلك الزخم الإعلامي الذي كان لهما في البداية، ظهرت أحداث أخرى متفرقة قادها مجموعة من الناس ضد فتاتين بانزكان كانا يلبسان لباسا قصيرا [تنورة]. تجمّع الناس حول الفتاتين و تدخل البوليس و تمت إحالتهما على العدالة في حالة سراح. من الواضح أن من تجمهر ضد الفتاتين ناس يعتبرون أنفسهم مسئولين عن النهي عن المنكر بالمفهوم الديني و أنهم بذلك يقومون بواجب المحافظة على قيم الحشمة التي يجب أن تلتزم بها المرأة في الشارع العام. لكن هذا الأمر لم يحض بالإجماع، حيث خرج المناهضون لهذا التدخل في حرية الأفراد للاحتجاج ضد متابعة الفتاتين و ضد التجمهر ضدهما أصلا. و احتد النقاش في الشارع و على مواقع التواصل الاجتماعي و الصحافة، كل فريق يقدم حججه و يدافع عن آراءه. فالفريق المدافع عن قيم الحشمة ينتقد المحتجين ضد قرار المتابعة و يفضح نفاقهم الاجتماعي و انتهازيتهم السياسية بإبراز الطبيعة الانتقائية للقضايا التي يدافعون عنها. ففي الوقت الذي يدافعون فيه عن حرية لباس تنورة، فإنهم يتجاهلون قضايا أكثر أهمية كالعري الإجباري للفقراء و البؤس الذي يعيشون فيه و اغتصاب الفتيات و خصوصا المعاقات[قضية فوزية]. كما قام الفريق المدافع عن الحرية الفردية في اللباس بنشر صور لنساء من النخبة الحاكمة يلبسون التنورة كحجة ضد قرار المتابعة و لإدانة التدخل في الحرية الفردية. كما عرفت هذه القضية تضخيما إعلاميا و تعبئة سياسية و قانونية حيث ناب عن الفتاتين عدد كبير من المحامين[ 100 محام، في الوقت الذي لم ينب سوى محام واحد عن الفتاة المعاقة المغتصبة] و نظمت العديد من الوقفات الاحتجاجية في مدن أخرى كالرباط من طرف جمعيات عدة تدافع عن الحريات الفردية و خصوصا حقوق المرأة، كما وُقعت عرائض استنكار على الانترنت تطالب باحترام الحريات الفردية. لم تتدخل الدولة في الموضوع لأن المجتمع منقسم على نفسه في هذه النقطة بالذات و يبقى الهلع الأخلاقي فئويا يهم فريقا دون آخر.و جاء حكم البراءة في هذه القضية ليضع حدا لهذا الجدل و منتصرا للجهة الداعية إلى احترام الحريات الفردية.
غير أن الحملة التي قامت بها جمعية من الدارالبيضاء لجمع تبرعات على مواقع التواصل الاجتماعي لفائدة الفتاة المعاقة، فوزية من مولاي عبد الله نواحي الجديدة، ضحية الاغتصاب و زنا المحارم، و ذلك لمساعدة أسرتها على شراء شقة و ضمان مورد قار للرزق حققت نجاحا غير متوقع و إجماعا اجتماعيا حول مساعدة هذه الطفلة المعاقة. و قد تم تحقيق ذلك فعلا و حصلت أسرتها على شقة مجهزة مجانا و 200 ألف درهما-قيمة التبرعات- كرأسمال لتأسيس مشروع مدر للدخل يضمن للفتاة و أسرتها العيش الكريم.
خاتمة هذه الأحداث هو ما وقع في فاس حيث تم التنكيل بشاذ جنسي من طرف مجموعة من الأفراد. انقلبت الأمور هذه المرة و أصبح مقاولو الأخلاق هم الخطر الذي يهدد الحريات الفردية. و رغم تشبث البعض بإدانة الشواذ، فأغلبية التعليقات و التدخلات على مواقع التواصل الاجتماعي و في الصحافة أكدت أن الإجماع هو لصالح احترام الحريات الفردية. و تدخل مسئولون حكوميون لتأكيد أن الدولة تحمي الأفراد و لا حق لأي كان أن يعترض طريق الناس ليفرض رأيه عليهم.
بعد استعراض هذه الأحداث و ما أحدثته من هلع أخلاقي يتضح أنها تكشف في الحقيقة عن صراع أساسي كامن في المجتمع المغربي بين تيارين متنافسين و لهما مرجعيتين مختلفتين، و أن هذا الصراع يبرز حالما يقع حدث يمس قيم تيار معين. غير أن الملاحظ هو أن الفضاء السياسي و الثقافي أصبح مستقطبا بين هاذين التيارين، لكن يبقى الإجماع حول القضايا المثارة هو الذي يحسم النقاش و يدعم بذلك القيم التي تم تهديدها كما وقع بالفعل في قضية الطفلة المعاقة المغتصبة. يمكن أن نعتبر مثل هذه الحالات من الهلع الأخلاقي ايجابية لأنها تساند و تدعم قيما إنسانية. لكن إذا ما تأملنا الحالات الأخرى نلاحظ استقطابا حادا للرأي لأن القضايا المثارة هي قضايا خلافية و لها خلفيات إيديولوجية و سياسية، لذلك لا يتحقق نفس الإجماع الذي تحقق في قضية الاغتصاب. فلباس المرأة موضوع يختلف حوله الإسلاميون، و المحافظون عموما، و العلمانيون و المدافعون عن مسألة الحقوق الفردية. غير أنه تجب الإشارة إلى أن المحافظين، الذين يعتقدون أنهم يمثلون أغلبية ، لا يقومون بأي حراك سياسي في الشارع العام للدفاع عن القيم التي يؤمنون بها و بصلاحية تطبيقها و دعمها في المجتمع المغربي، في حين أن المدافعين عن الحقوق الفردية هم أكثر تعبئة و ينظمون وقفات احتجاجية متكررة للدفاع عن موقفهم، و ذلك لإحساسهم بان قضيتهم تحتاج لحراك سياسي مستمر لأن البنيات المتحكمة في الثقافة هي محافظة و تستمد بعض شرعيتها من الدين و التقاليد و لها سلطة اجتماعية.
إذا ما حاولنا تقييم هذه الموجات من الهلع الأخلاقي في السياق التاريخي، لا نجد فعلا أي دلالة غير عادية مادام المغرب يمر باستمرار بفترات من هذا النوع من النقاش المتوتر و المفرط في الحساسية و تعتبر فعلا وسيلة للصراع الايديولوجي و الحوار المجتمعي، لكن الأمر الذي يلفت الانتباه هو هذا الاستقطاب الواضح بين تيار إسلامي متعدد الأطياف، معتدل، متشدد و جهادي داعشي يلوح في الأفق، و تيار علماني مكون غاليا من اليسار والحركات الحقوقية. لقد كان للربيع العربي دورا محوريا في بروز هذا النوع من الاستقطاب الايديولوجي. ففي الوقت الذي كان يعيش فيه العالم العربي بما فيه المغرب انتكاسة حقيقية لحركات الإسلام السياسي، وارتفعت فيه أصوات شبابية وحقوقية للمطالبة بالحرية و الكرامة الإنسانية، جاء الربيع العربي كمرحلة لمابعد الإسلام السياسي، أو على الأقل هذا ما كان متوقعا في العالم العربي و في الغرب، لكن الحركات الإسلامية استفادت من مجهودات التنظيم و التعبئة التي كانت تقوم بها لعقود و هيمنت على المشهد السياسي. بسبب ذلك قامت ثورة مضادة في مصر و دخلت دول أخرى حروبا أهلية، و بقي المغرب استثناء حيث صعد الإسلاميون المعتدلون للسلطة و تقوى الإسلام السياسي عموما. في المقابل وقع انكماش واسع في اليسار الذي فقد تدريجيا شعبيته. مع اقتراب الانتخابات المحلية و بروز الظاهرة الداعشية كتطور سياسي لإجهاض الربيع العربي، أصبح التوتر سيد الموقف و أصبح كل فريق يحاول دعم موقفه الإيديولوجي و ترويجه في الفضاء العام. فالتيار المحافظ يحاول تثبيت صورته كمدافع عن الدين و عن القيم و الأخلاق،و كمحارب للفساد الأخلاقي، في حين أن التيار الحقوقي و اليسار يحاول تخويف الناس من مشروع الإسلام السياسي و ربطه في أذهان الناس بالتشدد و أحيانا بالداعشية، ويسعى إلى الدفاع عن الحقوق الفردية و الحريات التي يقيدها الدين على الخصوص.
إذا كان هذا الاستقطاب ناتج عن طبيعة المواضيع المثارة و الذي لا يحظى أي موقف تجاهها بالإجماع لكونها مواضيع خلافية، فإنه يعبر كذلك عن خوف متبادل بين تيارين يخترقان المجتمع المغربي بعمق و يعيشان مرحلة حاسمة في تاريخهما بعد الغموض الذي أصبح يلف الوضع السياسي في العالم العربي، فالإسلاميون ينتظرون ما ستؤول إليه الأوضاع في مصر و غيرها من الدول العربية، مع الإحساس بحرج تجاه التشدد الداعشي، و يتأهبون لدخول الانتخابات المحلية على أمل أن يحققوا نتائج مرضية رغم ضعف منجزات الحكومة و نظرا لغياب بديل حقيقي. أما اليسار فمازال يراوح مكانه، بدون ايديولوجية و بدون قيادات قوية، و أصبح يميل أكثر لاستعمال الأعيان لتحقيق بعض النتائج في الانتخابات، كما تزيد المشاكل الداخلية التي يعيشها اليسار من تدني شعبيته. اقتران الاستقطاب بالخوف يشير إلى وجود أزمة حقيقة في المشهد السياسي بالمغرب، وجب التعامل معها بحذر و بُعد نظر.
إن التوفيق بين التيارين المتعارضين هو رهان مستقبلي للطبقة الحاكمة و لطبقة المفكرين و المثقفين، و يبقى التشدد سواء في التيار الديني المحافظ أو العلماني مرفوضا و يبقى التوافق ممكننا إذا ما تمت مناقشة القضايا الأساسية في هدوء تام و بعيدا عن حالات الهلع الأخلاقي المبالغ فيها والتي لا تفيد المجتمع في شيء. يجب أن تتم المحافظة على بعض القيم الجماعية الإيجابية بالموازاة مع دعم مجتمعي لحريات فردية مسئولة.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

error: Content is protected !!