مفارقة فيسبوكية: التفاعل الافتراضي الذي يورث السلبية

2014-07-08T11:05:12+00:00
ثقافة و فنون
8 يوليو 2014آخر تحديث : الثلاثاء 8 يوليو 2014 - 11:05 صباحًا
مفارقة فيسبوكية: التفاعل الافتراضي الذي يورث السلبية

قد يتفق أغلب رواد شبكات التواصل الاجتماعي على أن أهم ما يميز هذه الشبكات هو التفاعل بين الافراد و الجماعات. أصبح التفاعل مقولة أساسية في الثقافة الرقمية وأصبح كل من يرتاد هذه الشبكات يبحث عن المزيد من العلاقات و الترابط و الحميمية و اعتراف الآخرين بعيدا عن المواضعات الاجتماعية و العراقيل المرتبطة باللقاءات الحقيقية في العالم الواقعي. يتمكن أغلب الرواد من الانخراط في مجموعات و تكوين صداقات مع  رواد آخرين غالبا بغض النطر عن تطابق المستويات الاجتماعية و الاقتصادية، و يتمكنون بذلك من تكوين و تقوية رأسمال اجتماعي باستقلال شبه تام عن الرأسمال الاقتصادي، ليتم استغلاله في ظروف معينة كقوة سياسية، كما حدث استثناء خلال الربيع العربي. نظرا للطبيعة الديمقراطية لبنيتها،  كسرت هذه الشبكات العديد من القيود التي كانت تمنع الناس من ايصال صوتهم بكل حرية و من خلق نقاش حول قضايا عامة و تعبئة الطاقة السياسية الجماعية.

غير أن هذه الصورة الايجابية عن هذه الشبكات و خصوصا الفيسبوك لا تصمد كثيرا أمام تحليل بعض  الباحثين المتخصصين في دراسة الفضاءات الافتراضية و تأثيرها على الادراك و الفعل. سنحاول  مناقشة هذا الموضوع من خلال مفهوم السلبية المعرفية و العاطفيةInterpassivity  على الفيسبوك الذي أسس له لاكانLacan  و زيزكZizek ،  و طوره باحثون آخرون كروبرت بفالر R. Pfaller. يمكن تحديد معنى هذا المفهوم كعلاقة يتم بموجبها تحويل إرادي من طرف شخص ما لفعله و إحساسه لشخص أو شيء آخر، حيث يبدو هذا الشخص نشطا و فاعلا لكن سلوكه يتميز  في واقع الامر بالسلبية. قدم لاكان عدة أمثلة لتقريب معنى هذا النوع من السلبية، حيث يورد كمثال الدور الذي كان يلعبه الكوروس في المسرح اليوناني القديم، و الذي كان يتكون من 12 إلى 50 شخصا يعلقون بصوت جماعي على احداث المسرحية ، أي أنهم يعبرون عن إحساس المتفرج اتجاه تلك الاحداث بالنيابة عنه و يبقى هذا الاخير سلبيا مادام هناك من يحس مكانه و يعبر عن ذلك الاحساس. وقد عرف المجتمع البشري أمثلة أخرى، حيث توجد في بعض المجتمعات عادة كراء نساء يُجدن البكاء و العويل للقيام بذلك أثناء مراسيم الدفن و العزاء نيابة عن أهل الميت الذين يكونون مشغولين بقضايا أخرى. كما توجد عادة أخرى مشابهة في منطقة التبت حيث يقوم السكان بكتابة أدعية و صلوات على ورقة و يضعونها في عجلة مثبتة  و يجعلونها تدور سواء باليد أو بفعل الريح، و تقوم بذلك العجلة بالدعاء لهم و الصلاة نيابة عنهم . قد يعتقد البعض أن الامر مرتبط بالمجتمعات البدائية ،لكن المجتمع الحديث لا يخلو من أمثلة لهذا النوع من السلبية، فالضحك المعلب في السكيتشات الهزلية sitcoms يقوم بنفس الدور وذاك بالنيابة عنا في الضحك، وحتى عندما نكون متعبين و لا نقدر على الضحك، نحس بارتياح عند انتهاء السيتكوم بفضل هذا الضحك المعلب .

  أصبح هذا النوع من السلبية شائعا بفعل الضغط الهائل الذي تمارسه الحياة المعاصرة و الذي يجعل وقت الفراغ الذي نتوفر عليه لا يكفي لممارسة العديد من الانشطة كمشاهدة برنامج ثقافي أو فيلم أو وثائقي، و نكتفي أحيانا بتسجيلهم في انتظار أن تتاح لنا الفرصة لمشاهدتهم، لكن هذا الوقت قد لا يأتي و لن يتوفر لنا على الاطلاق، لكن مع ذلك يبقى لدينا إحساس بالارتياح لأننا نتوفر على تسجيل، فالمسجل يقوم بالنيابة عنا بتسجيل ومشاهدة هذه البرامج و الافلام. نفس الشيء يتكرر مع مقالات أو كتب تعجبنا فنحمّلها على جهاز الكمبيوتر، و رغم أننا لا نمتلك الوقت الكافي لقراءتها أو لإتمام قراءتها، فإننا نحس بشيء من الارتياح لمجرد أننا نتوفر على نسخة منها، و كأن الكمبيوتر يقوم بالنيابة عنا بقراءتها. طبعا هناك أشخاص منضبطون يقرؤون و يشاهدون ما يعجبهم في أوقات فراغهم، لكن القارئ يعرف أن هؤلاء الاشخاص يُعتبرون الاستثناء الذي يثبت القاعدة التي مثلنا لها بما سبق، أي أن نعتقد أننا نقوم بفعل  في الوقت الذي نكون فيه سلبيين، حيث يقوم شيء ما بالنيابة عنا في إنجاز ذلك الفعل [ألة تسجيل أو كمبيوتر].

يصبح الامر أكثر وضوحا عندما نتناول أعراض هذه السلبية على شبكات التواصل الاجتماعي ، الفيسبوك نموذجا. يتم عرض ما ينشره الاصدقاء على الفيسبوك في الصفحة الرئيسية لكل حساب، لكن الكم الهائل لهذه التحديثات يجعل من المستحيل أن نقرأ  كل تلك المنشورات  و لا حتى أن ندرك وجودها فعلا، لكن يبقى لدينا إحساس بأن الفيسبوك يقوم بالنيابة عنا بحفظ تلك المنشورات و بأننا سنقوم بالاطلاع عليها في وقت لاحق، الامر الذي لا يتحقق في أغلب الأحيان. كما أن الفيسبوك يُطلعنا في جانب من الصفحة الرئيسية على الافعال التي يقوم بها أصدقاؤنا على الفيسبوك، لكن القليل منا من يشاهد أو يتابع تلك الاخبار. لدينا دائما  إحساس بأن الفيسبوك يقوم بالنيابة عنا بتسجيل كل كبيرة و صغيرة، وبأننا سوف نتمكن من الاطلاع على هذه الاخبار إن ساعدتنا ظروف الحياة المعاصرة، حيث يبقى تدبير الوقت إشكالية حقيقية. نُعجب بمنشورات الآخرين سواء إعجابا حقيقيا بعد تأمل الصورة أو قراءة النص، أو مجاملة للأصدقاء، لكن في كلتا الحالتين نضغط على ايقونة الاعجاب و يقوم الفيسبوك بإبلاغ إعجابنا للآخر. يعتبر إرفاق الاعجاب بتعليق  أقل بكثير من الناحية الكمية من الاعجاب الآلي، لتبقى بذلك الممارسة الشائعة هي الاعجاب الذي يتكلف الفيسبوك بتقييده على صفحة الاصدقاء و بإبلاغهم بحدوثه. يبدو أن في الامر تفاعلا و حركية لكنه بعد قليل من التأمل تجلو لنا حقيقة صادمة و هي أن الامر يتعلق بحركية زائفة. الكثير من النقر و التصفح، لكننا لا نكاد نعثر على أي أثر لذلك على مستوى المعرفة و العلاقات العاطفية. نُطور علاقات كثيرة مع أشخاص كثيرين لكن لا علاقة لنا حقيقة مع أغلبهم، نعتقد أننا نعرف الكثير عن الواقع لكن الواقع الحقيقي لا يشبه البتة الواقع الافتراضي.

نقوم على الفيسبوك بالكثير من الافعال لكن هذه الحركية تبقى زائفة لأن   الفيسبوك ينوب عنا في القيام بأغلب الافعال حتى السلبية منها. ينتج عن ذلك تحول العالم الافتراضي لعالم تخييلي و برودة في العلاقات التي لا تكون مدعمة فعلا بلقاءات في العالم الواقعي. لكن ينبغي أن نتساءل عن أثر هذا التغير الثقافي ـ المرتبط أصلا بهيمنة الثقافة الرقمية على حياتنا ـ على سلوكنا الفعلي في الواقع. هل لهذه السلبية المعرفية و العاطفية أثر على تدخلنا في الواقع و التأثير فيه.

سبق لهبرماس  في كتاب له حول التحول البنيوي في الفضاء العام أن نبه لتأثير وسائل الاعلام المعاصرة من صحافة و تلفزيون على الجمهور و دورها في تهدئة الناس و تطويعهم لسلطة من يتحكم فيها و ذلك بتوفير وسيلة للالتزام البديل عبر الخطاب، أي الاستغناء عن التجمع في الفضاءات العامة و المشاركة في النقاشات السياسية، ليصبح وضع المواطن يشبه وضع المتفرج الذي يكتفي بالكلام [ التشجيع أو عدم الرضا] دون الالتزام بالقيام بأي فعل على أرض الواقع . قد يبدو للقارئ أن ملاحظة  هابرماس لا تنطبق على شبكات التواصل الافتراضية، فهذه الاخيرة ساهمت في تحطيم العديد من القيود التي كانت تحد من حرية التعبير السياسي و المقاومة للسلطة المهيمنة، لكن المفارقة تكمن في أن هذه الشبكات حولت الفعل التي جعلته ممكنا إلى سلبية أعمق من التي يتحدث عنها هابرماس. فقد ولّدت هذه الشبكات إحساسا لدى مرتاديها بالتفاعل لكنها في الحقيقة سلبتهم القدرة على الالتزام الفعلي في الواقع و على التفاعل الاجتماعي مع ناس حقيقيين في سياقات حقيقية. فقد أصبح الفيسبوك، مثلا، ذلك الآخر الكبيرle grand Autre، حسب تعبير لاكان، الذي يحس و يفكر بالنيابة عنا، و يقدم لنا واقعا، و فكرا و إحساسا بدون مادة.

أرى أن الخطر يكمن ليس في السلبية الواضحة، لكن في الحركية الزائفة. قد يصبح اعتمادنا على الآخر الكبير عادة متحكمة في السلوك، و قد بدأنا نرى أعراضه في الحياة العامة، فالكثير من النقاشات و المبادرات و الحركية في المجتمع السياسي و المدني تمارس سياسة بدون رؤية أو التزام، تناقش الاصلاح و الشفافية و الديمقراطية و غيرها من القيم و الممارسات بقوة هستيرية ، لكنه نقاش من أجل النقاش، فارغ من المادة، كالواقع الافتراضي الذي نعتقد أنه حررنا من قيود عديدة، لكنه في الواقع استبدل قيودا بأوهام و هيمنة من نوع آخر. أما من يملكون مفاتيح هذه العوالم الافتراضية و حتى الواقعية فإنهم يريدوننا أن نبقى دائما منشغلين بهذه الحركية الزائفة التي لا توسع معرفة و لا تقوي التزاما، و كأن هدف تشجيع هذه الحركية هو منع أي تغير فعلي في الواقع. لأن أي سلطة تخاف الصمت، فإنها تشجع على المشاركة و الكثير من الضوضاء و الحركة على شرط أن تبقى حركة زائفة، بدون مادة و متحكم فيها من طرف الآخر الكبير.

د. محمد مفضل

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

error: Content is protected !!